كتاب النكت على صحيح البخاري (اسم الجزء: 2)

الطرفين من كل وجه، بل يُمكن حمله عَلى ما يكون من قسم خلاف الأَوْلَى، بأن يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته، راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج.
ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه أنه كَانَ يقول: المكروه عَقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلَى الحرام، والمباح عَقَبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلَى المكروه.
وهو مَنْزع حسن، ويؤيده رواية ابن حِبَّان من طريقٍ ذكر مُسْلِم إسنادها ولَم يسق لفظها، فيها من الزيادة: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سُتْرة من الحلال، من فعل ذلِكَ استبرأ لِعرْضه ودينه، ومن أرتع فيه كَانَ كالمرتع إلَى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه" (¬1).
والمعنى: أن الحلال حيث يخشى أن يئول فعله مطلقًا إلَى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه، كالإكثار مثلًا من الطيبات فإنه يحوج إلَى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق، أو يفضي إلَى بَطَر النفس، وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية.
والَّذِي يظهر لي رجحان الوجه الأول عَلى ما سأذكره، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادًا، ويختلف ذَلِكَ باختلاف الناس، فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم، ولا يقع له ذلكَ إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما تقرر قبل، ودونه تقع له الشُّبْهة في جَميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال.
ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جُرْأة عَلى ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم عَلى ارتكاب المنهي المحرم إذا كَانَ من جنسه، أو يكون ذلِكَ لسر فيه، وهو أن من تعاطى ما نُهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان الورع، فيقع في الحرام ولو لَم يَختر الوقوع فيه.
ووقع عند المصنف في البيوع من رواية أبي فروة، عن الشعبي في هذا الحديث: "فمن [104/ ب] ترك ما شُبِّه عليه من الإثم كَانَ لما استبان له أترك، ومن اجترأ عَلى ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان". وهذا يرجح الوجه الأول كما أشرت إليه.
¬__________
(¬1) "صحيح ابن حبان" (كتاب الحظر والإباحة، ذكر الأمر بمجانبة الشبهات سترة بين المرء وبين الوقوع في الحرام المحض) برقم (5543).

الصفحة 32