كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (اسم الجزء: 2)

السَّالِكُ إِذَا وَرَدَ مَوْرِدَ الْإِخْبَاتِ تَخَلَّصَ مِنَ التَّرَدُّدِ وَالرُّجُوعِ، وَنَزَلَ أَوَّلَ مَنَازِلِ الطُّمَأْنِينَةِ بِسِفْرِهِ، وَجَدَّ فِي السَّيْرِ.
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: أَنْ تَسْتَغْرِقَ الْعِصْمَةُ الشَّهْوَةَ وَتَسْتَدْرِكَ الْإِرَادَةُ الْغَفْلَةَ. وَيَسْتَهْوِي الطَّلَبُ السَّلْوَةَ.
الْمُرِيدُ السَّالِكُ: تَعْرِضُ لَهُ غَفْلَةٌ عَنْ مُرَادِهِ، تُضْعِفُ إِرَادَتَهُ. وَشَهْوَةٌ تَعَارُضُ إِرَادَتَهُ فَتَصُدُّهُ عَنْ مُرَادِهِ. وَرُجُوعٌ عَنْ مُرَادِهِ، وَسَلْوَةٌ عَنْهُ.
فَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْإِخْبَاتِ تَحْمِيهِ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. فَتَسْتَغْرِقُ عِصْمَتُهُ شَهْوَتَهُ.
وَالْعِصْمَةُ هِيَ الْحِمَايَةُ وَالْحِفْظُ. وَالشَّهْوَةُ الْمَيْلُ إِلَى مَطَالِبِ النَّفْسِ. وَالِاسْتِغْرَاقُ لِلشَّيْءِ الِاحْتِوَاءُ عَلَيْهِ وَالْإِحَاطَةُ بِهِ.
يَقُولُ: تَغْلِبُ عِصْمَتُهُ شَهْوَتَهُ وَتَقْهَرُهَا، وَتَسْتَوْفِي جَمِيعَ أَجْزَائِهَا. فَإِذَا اسْتَوْفَتِ الْعِصْمَةُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الشَّهْوَةِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إِخْبَاتِهِ وَدُخُولِهِ فِي مَقَامِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَنُزُولِهِ أَوَّلَ مَنَازِلِهَا، وَخَلَاصِهِ فِي هَذَا الْمَنْزِلِ مِنْ تَرَدُّدِ الْخَوَاطِرِ بَيْنَ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ، وَالرُّجُوعِ وَالْعَزْمِ، إِلَى الِاسْتِقَامَةِ وَالْعَزْمِ الْجَازِمِ، وَالْجِدِّ فِي السَّيْرِ. وَذَلِكَ عَلَامَةُ السَّكِينَةِ.
وَتَسْتَدْرِكُ إِرَادَتُهُ غَفْلَتَهُ. وَالْإِرَادَةُ عِنْدَ الْقَوْمِ هِيَ اسْمٌ لِأَوَّلِ مَنَازِلِ الْقَاصِدِينَ إِلَى اللَّهِ. وَالْمُرِيدُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْ وَطَنِ طَبْعِهِ وَنَفْسِهِ. وَأَخَذَ فِي السَّفَرِ إِلَى اللَّهِ، وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا نَزَلَ فِي مَنْزِلِ الْإِخْبَاتِ أَحَاطَتْ إِرَادَتُهُ بِغَفْلَتِهِ. فَاسْتَدْرَكَهَا، وَاسْتَدْرَكَ بِهَا فَارِطَهَا.
وَأَمَّا اسْتِهْوَاءُ طَلَبِهِ لِسَلْوَتِهِ فَهُوَ قَهْرُ مَحَبَّتِهِ لِسَلْوَتِهِ، وَغَلَبَتُهَا لَهُ. بِحَيْثُ تَهْوِي السَّلْوَةُ وَتَسْقُطُ، كَالَّذِي يَهْوِي فِي بِئْرٍ. وَهَذَا عَلَامَةُ الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ أَنْ تَقْهَرَ فِيهِ وَارِدَ السَّلْوَةِ، وَتَدْفِنَهَا فِي هُوَّةٍ لَا تَحْيَا بَعْدَهَا أَبَدًا.
فَالْحَاصِلُ: أَنَّ عِصْمَتَهُ وَحِمَايَتَهُ تَقْهَرُ شَهْوَتَهُ. وَإِرَادَتُهُ تَقْهَرُ غَفْلَتَهُ. وَمَحَبَّتُهُ تَقْهَرُ سَلْوَتَهُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَنْقَضُّ إِرَادَتَهُ سَبَبٌ. وَلَا يُوحِشُ قَلْبَهُ عَارِضٌ. وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْهِ الطَّرِيقَ فِتْنَةٌ.

الصفحة 7