كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 2)

(أَفَلا تَعْقِلُونَ): توبيخ عظيم، بمعنى: أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقول، لأن العقول تأباه وتدفعه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإلزام الخصم، كذلك (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ) حال من فاعل (أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) للتبكيت، وأيضاً كما اختلف تقدير متعلق "تعلمون" باختلاف تفسير "لا تلبسوا الحق بالباطل" في الوجهين على ما سبق، كذلك يختلف تقدير متعلق "يتلون" باختلاف تفسير "أتأمرون" في تلك الوجوه الثلاثة المذكورة من الأمر باتباع محمد صلوات الله عليه ولا يتبعونه، والأمر بالصدقة ولا يتصدقون، والأمر بالصدقة والخيانة فيها. فأتى بها في التقدير على طريقة النشر بلا ترتيب. ولما كان الوجهان الأخيران قولاً واحداً كما سبق، جاء بـ "أو" وعطف عليه قوله: "ومخالفة" على "الخيانة" بالواو.
فإن قلت: هل يحتمل قوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما احتمل في قوله: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 22] من جعله بمنزلة اللازم مبالغة، أي: أنتم من أهل العلم والمعرفة؟
قلت: لا، لأنه عقب بقوله: (أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) الآية وهو مثل قوله: (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً) [الجمعة: 5] وقوله: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) تقريع بعد التبكيت، أي: كأنكم مسلوبو العقول وكالحمار يحمل أسفاراً، فكيف يثبت لهم العلم الفائق كما أثبت لدهاة العرب هناك! وفي هذا إيذان بأن فعل اليهود كان أفحش من فعل المشركين؛ لأن مخالفة النص الجلي مع اعتقاد وجوبه مخالفة لأمر الله وأمر العقل، ومخالفة أمر العقل مخالفة له فحسب.
قوله: (مسلوبو العقول؛ لأن العقول تأباه وتدفعه) فيه إيماء إلى أن قوله: (أَفَلا تَعْقِلُونَ)

الصفحة 463