كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 2)

فأرسل اللَّه ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم، وقيل لهم: اصبروا، فلعن اللَّه من مدّ طرفه أو حل حبوته أو اتقى بيد أو رجل، فيقولون: آمين، فقتلوهم إلى المساء حتى دعا موسى وهرون وقالا: يا رب، هلكت بنو إسرائيل، البقية البقية، فكشفت السحابة ونزلت التوبة. فسقطت الشفار من أيديهم، وكانت القتلى سبعين ألفا. فإن قلت: ما الفرق بين الفاءات؟ قلت: الأولى للتسبيب لا غير، لأن الظلم سبب التوبة. والثانية للتعقيب لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم، من قبل أن اللَّه تعالى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بأمره يستبقيها وبأمره يفنيها، وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو حياة سرمدية كما قال الله تعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) [العنكبوت: 64] وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها، ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا كمجاهد أقيم على ثغر يحرسه، ووال على بلد يسوسه، وأنه مهما استرده، فلا فرق بين أن يأمره بخروجه بنفسه، أو يأمر غيره بإخراجه، وهذا واضح لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما.
قوله: (اصبروا، فلعن الله) الفاء للتعقيب داخلة على شرط مقدر، تقديره: اصبروا، فمن لم يصبر لعنه الله، فوضع "من مد طرفه" إلى آخره موضع الضمير إشعاراً بالعلية.
قوله: (البقية البقية)! وهي منصوبة بفعل مضمر، أي: سلم البقية.
قوله: (للتسبيب لا غير) يعني ليست للعطف، كقولهم: الذي يطير فيغضب زيد الذباب.
قوله: (والثانية للتعقيب)، اعلم أن حمل الفاء على التعقيب يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون قتل أنفسهم عين التوبة، فحينئذ يحتاج إلى تقدير "فاعزموا على التوبة فاقتلوا" لئلا يلزم عطف الشيء على نفسه، وإليه الإشارة بقوله: "من قبل أن الله جعل توبتهم قتل أنفسهم".

الصفحة 488