كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 2)

فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة أبرياء من التفاوت والتنافر، إلى عباد البقرة التي هي مثل في الغباوة والبلادة. - في أمثال العرب: أبلد من ثور - حتى عرضوا أنفسهم لسخط اللَّه ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم، حين لم يشكروا النعمة في ذلك، وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها.
[(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)] 55 - 57].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واعلم أن هذه التوبة وهي قوله: (فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) مناسبة لذكر البارئ دون سائر الصفات في هذا المقام؛ لأن معناه كما قال: خلقهم "أبرياء من التفاوت" وهي نعمة جسيمة، وكان من حق الشكر أن يخصوا من له هذه الصفة بالعبادة دون غيره، فلما عكسوا هذه القضية، وكفروا هذه النعمة بأن عبدوا ما هو على ضده، أي: لا تميز له أصلاً، استرد منهم تلك النعمة بأن أمروا بالقتل وفك ذلك التركيب الأنيق. ما أحسن هذا البيان!
قوله: (والتنافر) عطف على "التفاوت" على سبيل البيان لما فسر أن معنى التفاوت عدم التناسب، فعدم التناسب هو التنافر، أو على "ترك عبادة العالم"، وفيه تنافر.
قوله: (حتى عرضوا) غاية قوله: "من ترك عبادة العالم" أي: تركوا عبادة العالم الحكيم مائلين إلى عبادة البقر حتى أورثهم التعرض لسخط الله.
قوله: (وغمطوها)، الأساس: غمط النعمة: احتقرها ولم يشكرها.

الصفحة 491