كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 2)

وهما لغتان (كُلُّ أُناسٍ): كل سبط، (مَشْرَبَهُمْ): عينهم التي يشربون منها (كُلُوا): على إرادة القول (مِنْ رِزْقِ اللَّهِ): مما رزقكم من الطعام -وهو المنّ والسلوى- ومن ماء العيون. وقيل: الماء ينبت منه الزروع والثمار، فهو رزق يؤكل منه ويُشرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: ويعضد هذا قوله: "لا تقع إلا في كلام بليغ" وفاء النتيجة يكثر وقوعها في الكلام العامي. ولا يبعد أن يقال: إن المراد من قوله: "على هذا" أي: على أنها محتملة لهذين المعنيين، ووجه تسميتها بالفصيحة كونها مختصة بكلام الفصحاء لقوله: "لا تقع إلا في كلام بليغ" بالحصر، ووجد في الحاشية المنسوبة إليه: "الفاء" في "فتاب" تسمى فصيحة يستدل بها على فصاحة المتكلم، يقال: كلام فصيح، وكلمة فصيحة، وصفت الفاء بها على الإسناد المجازي كما وصف القرآن في قوله تعالى: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) [آل عمران: 58] بصفة من هو بسببه، لأن الحكيم هو المتكلم، وإنما اختصت بكلام البلغاء، لأن المراد بالحذف الدلالة على أن المأمور لم يتوقف عن إتباع الأمر، فكان المطلوب من المأمور الانفجار لا الضرب، ومثل هذا المعنى الدقيق لا يذهب إليه إلا الفصيح، ونحوه مذكور في "الأعراف".
قوله: ((مِنْ رِزْقِ اللَّهِ) مما رزقكم من الطعام- وهو المن والسلوى- ومن ماء العيون) يريد أن الرزق عام يطلق على جميع ما يختص بالعبد، يقال: رزق المال والولد والعلم وغير ذلك بحسب المقام، وخص ها هنا من المأكول بالمن والسلوى، ومن المشروب بالماء بقرينة قوله: (وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) [البقرة: 57] وقوله: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) [البقرة: 60] ويجوز أن يخصص بالماء بقرينة حديث الاستسقاء، وعلق عليه (كلوا) لأن الماء ينبت منه الزرع والثمار، وهو المراد بقوله: "فهو رزق يؤكل منه ويشرب" فعلى هذا من حق الكلام أن يقال: كلوا واشربوا منه، أي: من المشروب بدل من رزق الله، ولما كان الماء مما لا يؤكل فلو حمل على المأكول والمشروب معاً، لزم استعمال اللفظ في مفهوميه: حقيقته ومجازه، فبدل بالرزق ليشملهما، ولا يلزم المحذور، فحينئذ (مِنْ رِزْقِ اللَّهِ) ها هنا مظهر أقيم موضع المضمر من غير لفظه السابق. وهذا القول ضعيف؛ لأنه لو كان كذلك لما طلبوا ذلك بقولهم: (يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا

الصفحة 503