كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 2)

كانوا فلاّحة فنزعوا إلى عِكرهم فأَجِموا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء. (عَلى طَعامٍ واحِدٍ): أرادوا ما رزقوا في التيه من المنّ والسلوى. فإن قلت: هما طعامان فما لهم قالوا: (على طعام واحد)؟ قلت: أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدّة يداوم عليها كل يوم لا يبدّلها، قيل: لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا يراد بالوحدة نفى التبدّل والاختلاف. ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد، لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والتترف، ونحن قوم فلاحة أهل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومنه ما يتضمن صلاحاً راجحاً، كقتل الخضر الغلام، وخرقه السفينة. وعليه قوله تعالى: (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [البقرة: 194] لكن المقام ناب عنه؛ لأن الآية واردة في قوم مخصوصين. قال أبو البقاء: مفسدين حال مؤكدة؛ لأن قوله: (لا تَعْثَوْا) لا تفسدوا.
قوله: (فنزعوا إلى عكرهم) أي: اشتاقوا إلى أصلهم. النهاية: وفي حديث قتادة: ثم عادوا إلى عكرهم، عكر السوء، أي: أصل مذهبهم الرديء، قيل: العكر: العادة والديدن.
قوله: (فأجموا) أبو زيد: أجمت الطعام بالكسر إذا كرهته.
قوله: (أنهما ضرب واحد) أي: يجمعهما كونهما من طعام أهل التلذذ. وهذا أخص من الأول؛ لأنه بالنسبة غليه نسبة النوع على الجنس؛ لأن المراد من الطعام على الأول ما يؤكل ولا يختلف، وعلى الثاني: النوع من الطعام وهو كونه من طعام أهل التلذذ، فالأول يعم الفقراء والأغنياء، والثاني يخص الأغنياء.
قوله: (ونحن قوم فلاحة) أي: أهل زراعات، وهذا طعام المترفين وأهل التنعم، وهو لا يليق بنا، ولهذا عقب الله الإنكار بقوله: ادخلوا مصر، أي: ادخلوا فيما فيه سبب تعبكم ومشقتكم، واشتغلوا بالزراعة والفلاحة، فأنتم أهل لذلك.

الصفحة 505