كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 2)

(ذلِكَ): تكرار للإشارة. (بِما عَصَوْا) بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي واعتدائهم حدود اللَّه في كل شيء، مع كفرهم بآيات اللَّه وقتلهم الأنبياء. وقيل: هو اعتداؤهم في السبت. ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم، لأنهم انهمكوا فيهما وغلوا حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتل الأنبياء، أو ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا.
[(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)].
(إن الذين آمنوا) بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون (وَالَّذِينَ هادُوا): والذين تهوّدوا. يقال: هاد يهود. وتهوّد إذا دخل في اليهودية، .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((ذَلِكَ) تكرار للإشارة) كرر ليناط به ما لم ينط به أولاً، واعلم أن فيما سلكه من التفسير دقة نظر، وفضل تأمل؛ وذلك أنه لما جعل ذلك تكريراً، والمشار إليه ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة، جعل في كلامه الباء في قوله: (بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ) بمعنى مع، وحين لم يجعل اسم الإشارة تكريراً جوز أن تكون الباء في (بِمَا عَصَوْا) سببية تارة، وبمعنى "مع" أخرى.
والسبب في أن اسم الإشارة إذا جعل مكرراً يوجب اختصاص معنى المعية في الأول، والسببية في الثاني، هو أن مدخول الباء الثانية لا يخلو من أن يكون بدلاً من مدخول الباء الأولى بإعادة العامل، كقوله تعالى: (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف: 75] أو كررت لاستقلال كل من السببين على نحو قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) [البقرة: 7]، والأول بعيد لتقاصر معنى الثاني عن الأول، ويلزم من الثاني توارد السببين المستقلين على مسبب واحد.

الصفحة 509