كتاب فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) (اسم الجزء: 2)

وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين، فالأولى: لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونظير هذه القصة قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً* فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً) [الفرقان: 35 - 36]. قال: أراد اختصار القصة، فذكر حاشيتها: أولها وآخرها؛ لأنهما المقصود من القصة، أعني إلزام الحجة ببعثه الرسل، واستحقاق التدمير بتكذيبهم. فإذا قدمت القصة كان قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) [البقرة: 67] إلى آخره كالتفصيل والبيان لكيفية الأمر بالذبح المطوي وما يتصل به، والبيان لا يكون مستقلاً بل تتمة للمبين، فيكون التقريع واحداً، وإذا أخرتها كما هي عليه لم تكن بياناً، وكان مستقلاً فيما قصد به من تنبيه التقريع، ولذلك غير السياق وقيل: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ) فانظر إلى هذه الرموز، وإلى ذلك الإيجاز والتعجيز، ولله در المصنف ودقيق إشاراته!
قوله: (وما يتبع ذلك) عطف على "تقريعهم"، لا على "الاستهزاء"، إذ ليس في تلك القصة غير الاستهزاء. وترك المسارعة شيء يتوجه إليه التقريع، وكذا "ما يتبعه" عطف على "التقريع" لا على "قتل النفس"، إذ ليست "الآية العظيمة" مما يرد عليها التقريع، وفيه إشارة إلى صنعة الإدماج، يعني: سيقت القصتان للتقريع، وأدمج فيها هذه الفوائد، والإشارة "بذلك" إلى المذكور السابق، أي: يتبع التقريع وترك المسارعة من الفوائد المتكاثرة كما عددها في قوله: "لما في ذبح البقرة من التقرب" إلى قوله: "وأن النسخ قبل الفعل جائز"؛ لأن تلك الفوائد تابعة للأمر بذبح البقرة، وقوله: "وما يتبعه من الآية العظيمة" هو الذي عناه بقوله: "وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه" إلى آخره، وهو مستفاد من قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى)، فظهر أن الجواب السابق كان منطوياً على هذين الاعتبارين.

الصفحة 539