وكان على طولها، ونشَّ الدهن في القرن، فدهنَ به رأسه فلم ينزل على جبينه منه شيء فقال: أنت ملك بني إسرائيل، قال: أما علمتَ أن بيتي أدنى البيوت؟ فقال: بلى، ولكنَّ الله أمرني بذلك، قال: فأريد أمارة أخرى، قال: ترجع إلى أبيك وقد عادت الحمير. فرجع وقد رجعت.
ثم إن إشموئيل جمع بني إسرائيل وقال لهم: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247] أي: على الجيوش {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} [البقرة: 247] أي: كيف يكون هذا {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} ولم نُذْكَر؟ وإنما أنكروا هذا لأنه كان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوَّة، وسبط ملك، فسبط النبوة: سبط لاوي بن يعقوب ومنه موسى وهارون عليهما السلام، وسبط المملكة: وهو سبط يهوذا ابن يعقوب ومنه كان داود وسليمان، ولم يكن طالوت لا من سبط النبوَّة ولا من سبط المملكة، وإنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب، وهم من أحقر الأسباط وأقلّهم، كانوا ينكحون النساء على قوارع الطريق نهارًا، فغضب الله عليهم فنزع منهم النبوَّة والملك {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: 247] بل هو دباغٌ لا قدْرَ له ولا قيمة ولا أصل. فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ} بالحرب {وَالْجِسْمِ} بالطول والقوة. وكان يفوق الناس برأسه، وكان أعلم بني إسرائيل في زمانه، وأنه أوحى الله إليه حين آتاه الملك {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 247] فلا تنكروا ملكه مع كونه من غير أهل المملكة، فإن الملك ليس بالوراثة وإنما هو بيد الله يؤتيه من يشاء {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247] بنسبه حين بعثه عليكم. ثم قالوا: فما آية ملكه؟ قال {أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬1).
والتابوت بالتاء عربي. وفي حديث البخاري عن زيد بن ثابت: لما أمره أبو بكر - رضي الله عنه - أن يجمع القرآن واختلفوا في التابوت، فقال زيد بن ثابت: اكتبوه بالهاء تابوه، وقال عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاصي: اكتبوه بالتاء: تابوت، فرفع اختلافهم إلى عثمان - رضي الله عنه - فقال: اكتبوه بالتّاء، فإنها لغة قريش فكتبوه (¬2).
¬__________
(¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 268 - 269.
(¬2) هو ضمن حديث طويل أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (4506). وأخرجه البخاري (4986) مطولًا لكن دون موضع الشاهد.