كتاب مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (اسم الجزء: 2)

لا حاجة لي فيما أرى، لا يخرج معي رجل بنى بناءً لم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة وهو مشغولٌ بها، ولا مديون، ولا من تزوَّج امرأة ولم يدخل بها، ولا أبتغي إلا الشابَّ النشيط الفارغ. فاجتمع معه مما شرط ثمانون ألفًا، وكان الحرُّ شديدًا، وكانوا في قلّةٍ من المياه، فسألوا طالوتَ أن يسأل لهم ربَّه أن يجري لهم نهرًا، فقال طالوت: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249] أي: مختبركم ليبلو طاعتكم، وهو أعلم (¬1).
واختلفوا فيه:
فقال ابن عباس: هو الأُردُنُّ نفسه. وقال الربيع: نهر بين الأُردُنِّ وفلسطين عذب {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} أي: من أهل ديني وطاعتي {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} أي: يشرب منه {فَإِنَّهُ مِنِّي} عبَّر عن الشرب بالطعم - ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249] وقرأه ابن مسعود: "إلا قليلٌ" بالرفع على الاستئناف (¬2).
واختلفوا في القليل الذين لم يشربوا على قولين:
أحدهما: أنهم كانوا أربعة آلاف، قاله السُّدي.
والثاني: ثلاث مئة وبضعة عشر، وهو الأصح (¬3). والدليل عليه حديث البراء بن عازب قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: "أنتمُ اليومَ على عِدَّة أصحابِ طَالوتَ حينَ عَبرُوا النَّهرَ، وما جَازَ معَهُ إلا مُؤمِنٌ" (¬4). قال البراء: وكنا يومئذٍ ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلًا.
وقال ابن عباس: من اغترف غُرفة قويَ قلبُهُ وصحَّ إيمانه، وعبر النهر سالمًا، وكفته تلك الغُرفَة لنفسه ودوابِّه؛ والذين خالفوا وشربوا من النهر أكثرَ من غُرفة اسودَّت وجوههم، وغلبهم العطش ولم يَرْوَوْا، وبقوا على شطِّ النهر، وجبُنوا عن لقاء العدوِّ،
¬__________
(¬1) انظر "عرائس المجالس" ص 271 - 272.
(¬2) تفسير الثعلبي 2/ 218، والبحر المحيط 2/ 278 وزاد نسبته إلى أبيّ والأعمش.
(¬3) انظر "تفسير البغوي" ص 152.
(¬4) أخرجه البخاري في "صحيحه" (3957) عن البراء موقوفًا عليه.

الصفحة 150