كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (اسم الجزء: 2)

إِنَّ أُمَّكَ نَذَرَتْ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهَا مِشْطٌ حَتَّى تَرَاكَ، وَلَا تَسْتَظِلَّ عَنْ شَمْسٍ حَتَّى تَرَاكَ، فَرَقَّ لَهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: يَا عَيَّاشُ، إِنَّه وَاللَّهِ مَا يُرِيدُكَ القَوْمُ إِلَّا لِيَفْتِنُوكَ عَنْ دِينِكَ فَاحْذَرْهُمْ، فَوَاللَّهِ لَوْ آذَى أُمَّكَ القَمْلُ لَامْتَشَطَتْ، وَلَوْ قَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهَا حَرُّ مَكَّةَ لَاسْتَظَلَّتْ، فَقَالَ لَهُ عَيَّاشٌ: أَبَرُّ قَسَمَ أُمِّي، وَلِي هُنَاكَ مَالٌ فَآخُذُهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، فَلَكَ نِصْفُ مَالِي، وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا، وَلَكِنَّهُ أَبَى عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمَا، فَقَالَ لَهُ -رضي اللَّه عنه-: أَمَا إِذْ قَدْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ، فَإِنَّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ (¬1) ذَلُولُ (¬2)، فَالزَم (¬3) ظهْرَهَا، فَإِنْ رَابَكَ (¬4) مِنَ القَوْم رَيْبٌ، فَانْجُ عَلَيْهَا.
فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَغْلَظْتُ بَعِيرِي هَذَا، أَفَلَا تُعْقِبَنِي (¬5) عَلَى نَاقَتِكَ هَذِهِ؟
قَالَ عَيَّاشٌ: بَلَى، فَأَنَاخَ عَيَّاشٌ، وَأَنَاخَا لِيَتَحَوَّلَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَوْا
¬__________
(¬1) النَّجِيبُ: الفاضِلُ من كلِّ حيَوَان، إذا كان فَاضِلًا نَفِيسًا في نوعه. انظر النهاية (5/ 15).
(¬2) دَابَّةٌ ذَلُولٌ: أي لَيِّنَةٌ سَهْلة. انظر لسان العرب (5/ 55).
(¬3) اللِّزَامُ: هو المُلازَمَةُ للشَّيْءِ والدَّوَامُ عليه. انظر النهاية (4/ 214).
(¬4) الرَّيْبُ: بمعنى الشَّكّ. انظر لسان العرب (5/ 385) - ومنه قوله تعالى في سورة البقرة آية (2): {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}.
(¬5) اعتَقَبْتُ فُلانَا مِنَ الرُّكوب: أي نَزلْتُ فَرَكِبَ، والعقبةُ: النَّوبةُ: هذا مَرَّة، والآخر مَرَّة. انظر لسان العرب (9/ 304).

الصفحة 22