كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 2)

[الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى خَبَرَ التَّوَاتُرِ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ]
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ خِلَافًا لِلسُّمَنِيَّةِ (١) وَالْبَرَاهِمَةُ (٢) فِي قَوْلِهِمْ: لَا عِلْمَ فِي غَيْرِ الضَّرُورِيَّاتِ إِلَّا بِالْحَوَاسِّ دُونَ الْأَخْبَارِ وَغَيْرِهَا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا يَجِدُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مِنْ نَفْسِهِ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِالْبِلَادِ النَّائِيَةِ، وَالْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، وَالْمُلُوكِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَئِمَّةِ، وَالْفُضَلَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَالْوَقَائِعِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ، بِمَا يَرِدُ عَلَيْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ حَسَبَ وِجْدَانِنَا كَالْعِلْمِ بِالْمَحْسُوسَاتِ عِنْدَ إِدْرَاكِنَا لَهَا بِالْحَوَاسِّ. وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَتْ مُكَالَمَتُهُ، وَظَهَرَ جُنُونُهُ أَوْ مُجَاحَدَتُهُ.
فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فَرْعُ تَصَوُّرِ اجْتِمَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ وَالْجَمِّ الْغَفِيرِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَمْزِجَةِ وَالْآرَاءِ وَالْأَغْرَاضِ وَقَصْدِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُ أَهْلِ بَلَدٍ مِنَ الْبِلَادِ عَلَى حُبِّ طَعَامٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، وَحُبِّ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا تَصَوُّرَ اتِّفَاقِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي خَبَرِهِ، بِتَقْدِيرِ انْفِرَادِهِ كَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الصِّدْقُ.
فَلَوِ امْتَنَعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ لَانْقَلَبَ الْجَائِزُ مُمْتَنِعًا، وَهُوَ مُحَالٌ وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، وَالْجُمْلَةُ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْآحَادِ، كَانَ خَبَرُ الْجُمْلَةِ جَائِزَ الْكَذِبِ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، لَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ وَاقِعًا.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْآحَادِ يَكُونُ ثَابِتًا لِلْجُمْلَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْقَوْلَ بِحُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَمْرٌ مُمْتَنِعٌ فَيَمْتَنِعُ، وَبَيَانُهُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ تُخْبِرَ جَمَاعَةٌ بِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، لَجَازَ عَلَى مِثْلِهِمُ الْخَبَرُ بِنَقِيضِ خَبَرِهِمْ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ زَيْدًا كَانَ فِي وَقْتِ كَذَا مَيِّتًا، وَنَقَلَ الْآخَرُونَ حَيَاتَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْخَبَرَيْنِ، لَزِمَ اجْتِمَاعُ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِمَوْتِهِ وَحَيَاتِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَلَا أَوْلَوِيَّةَ مَعَ فَرْضِ تَسَاوِي الْمُخْبِرِينَ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ.
---------------
(١) السُّمَنِيَّةُ كَعُرَنِيَّةٍ قَوْمٌ بِالْهِنْدِ دَهْرِيُّونَ قَائِلُونَ بِالتَّنَاسُخِ - الْقَامُوسَ الْمُحِيطَ.
(٢) الْبَرَاهِمَةُ - انْظُرْ لِلتَّعْلِيقِ ص ٨٠ ج ١.

الصفحة 15