كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 2)

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَقَلُّ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ، بِعَدَدِ النُّقَبَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ الْعَدَدِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَقَلُّهُ عِشْرُونَ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَقَلُّ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ أَخْذًا مِنْ عَدَدِ أَهْلِ الْجُمُعَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَقَلُّهُمْ سَبْعُونَ، تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَقَلُّهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، نَظَرًا إِلَى عَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ، إِنَّمَا خُصُّوا بِذَلِكَ لِيُعْلَمَ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَقَلُّ عَدَدٍ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ مَعْلُومٌ لِلَّهِ تَعَالَى، غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ.
وَذَلِكَ لِأَنَّا لَا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا مَعْرِفَةَ الْعَدَدِ الَّذِي حَصَلَ عِلْمُنَا بِوُجُودِ مَكَّةَ، وَبَغْدَادَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُتَوَاتِرَاتِ عِنْدَهُ.
وَلَوْ كَلَّفْنَا أَنْفُسَنَا مَعْرِفَةَ ذَلِكَ عِنْدَ تَوَارُدِ الْمُخْبِرِينَ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ بِتَرَقُّبِ الْحَالَةِ الَّتِي يَكْمُلُ عِلْمُنَا فِيهَا بَعْدَ تَزَايُدِ ظَنِّنَا بِخَبَرٍ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ لَمْ نَجِدْ إِلَيْهِ سَبِيلًا عَادَةً، كَمَا لَمْ نَجِدْ مِنْ أَنْفُسِنَا الْعِلْمَ بِالْحَالَةِ الَّتِي يَحْصُلُ فِيهَا كَمَالُ عُقُولِنَا بَعْدَ نَقْصِهَا، بِالتَّدْرِيجِ الْخَفِيِّ، لِقُصُورِ الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يَحْصُلُ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَقِفُ عَلَى أَقَلِّ عَدَدٍ أَفَادَهُ كَمَا نَعْلَمُ حُصُولَ الشِّبَعِ بِأَكْلِ الْخُبْزِ، وَالرِّيِّ بِشُرْبِ الْمَاءِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَقِفُ عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ.
وَمَا قِيلَ مِنَ الْأَقَاوِيلِ فِي ضَبْطِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، فَهِيَ مَعَ اخْتِلَافِهَا وَتَعَارُضِهَا وَعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا وَمُلَائَمَتِهَا لِلْمَطْلُوبِ مُضْطَرِبَةٌ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ عَدَدٍ يُفْرَضُ حُصُولُ الْعِلْمُ بِهِ لِقَوْمٍ، إِلَّا وَقَدْ يُمْكِنُ فَرْضُ خَبَرِهِمْ بِعَيْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ لِلْعِلْمِ، بِالنَّظَرِ إِلَى آخَرِينَ، بَلْ وَلَوْ أَخْبَرُوا بِأَعْيَانِهِمْ بِوَاقِعَةٍ أُخْرَى لَمْ يَحْصُلْ بِهَا الْعِلْمُ لِمَنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمُ الْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعَدَدُ هُوَ الضَّابِطَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَمَا اخْتُلِفَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ فِي الْقَرَائِنِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْخَبَرِ، وَقُوَّةِ سَمَاعِ الْمُسْتَمِعِ وَفَهْمِهِ، وَإِدْرَاكِهِ لِلْقَرَائِنِ.

الصفحة 26