كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 2)

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَرْفَعُ جَمِيعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَصَحَّ، كَاسْتِثْنَاءِ الدَّرَاهِمِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَبِالْعَكْسِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ.
قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، قُلْنَا: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ قَبِيلٍ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا خُزَّانَ الْجِنَانِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَهُمْ، وَتَسْمِيَتُهُ جِنِّيًّا لِنِسْبَتِهِ إِلَى الْجِنَّةِ كَمَا يُقَالُ: بَغْدَادِيٌّ وَمَكِّيٌّ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاجْتِنَانِهِ وَاخْتِفَائِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - اسْتَثْنَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِمْ؛ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجِنْسِ وَوُقُوعِ الْخِلَافِ فِي غَيْرِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ إِنَّمَا كَانَ لِلْمَلَائِكَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمَّا كَانَ عَاصِيًا لِلْأَمْرِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِكَوْنِهِ، لَيْسَ مِنْهُمْ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ أَمْرٍ وَرَاءَ ذَلِكَ الْأَمْرِ.
وَدَلِيلُ عِصْيَانِهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .
قَوْلُكُمْ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُنَافِي كَوْنَهُ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ.
فَلَئِنْ قُلْتُمْ بِأَنَّ التَّوَالُدَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَالْمَلَائِكَةُ لَا إِنَاثَ فِيهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوَعُّدِ عَلَى قَوْلِ ذَلِكَ.
قُلْنَا: إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاثُ فِي الْمَلَائِكَةِ أَنْ لَوِ امْتَنَعَ حُصُولُ الذُّرِّيَّةِ إِلَّا مِنْ جِنْسَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
قَوْلُكُمْ: إِنَّ إِبْلِيسَ مَخْلُوقٌ مِنْ نَارٍ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ لَا مُنَافَاةَ أَيْضًا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، فَاسْتِثْنَاءُ الرَّبِّ - تَعَالَى - فِيهَا مِنَ الْمَعْبُودِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} ، وَهُمْ كَانُوا مِمَّنْ يَعْبُدُ اللَّهَ مَعَ الْأَصْنَامِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ لَا جَاحِدِينَ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ.

الصفحة 295