كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 2)

وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةً» " (١) ، وَخَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ جَعَلَ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ» (٢) ، وَخَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} بِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ» . (٣)
، وَخَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وَأَخْرَجُوا مِنْهُ مَا دُونَ النِّصَابِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» " (٤) ، وَخَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) بِإِخْرَاجِ الْمَجُوسِ مِنْهُ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: " «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ لِمَا فَعَلُوهُ نَكِيرٌ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.
وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ وَزِيَادَةٌ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّخْصِيصِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَخْصِيصَهَا كَانَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا رُوِيَ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَمَا خَالَفَهُ فَرَدُّوهُ» " وَالْخَبَرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ فَكَانَ مَرْدُودًا. (٥) .
---------------
(١) الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ بِلَفْظِ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةً
(٢) حَدِيثُ إِعْطَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّدُسَ لِلْجَدَّةِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
(٣) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِلَفْظِ: لَا يَصْلُحُ صَاعٌ بِصَاعَيْنِ وَلَا دِرْهَمٌ بِدِرْهَمَيْنِ إِلَخْ، وَهُوَ أَيْضًا فِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ.
(٤) رَوَى الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْطَعُ يَدَ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهَا أَيْضًا بِلَفْظِ: لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا.
(٥) رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ عَنِّي أَحَادِيثُ مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي مُوَافِقًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّتِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَا أَتَاكُمْ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ مِنْ طَرِيقٍ مُنْقَطِعَةٍ، انْظُرِ الْإِبْهَاجَ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِتَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ، وَفِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ أَحَادِيثُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْهَا عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَلَا إِنَّ رَحَى الْإِسْلَامِ دَائِرَةٌ " قَالَ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " اعْرِضُوا حَدِيثِي عَلَى الْكِتَابِ فَمَا وَافَقَهُ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا قُلْتُهُ "، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَفِيهِ يَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " سَأَلْتُ الْيَهُودَ عَنْ مُوسَى فَأَكْثَرُوا فِيهِ وَزَادُوا وَنَقَصُوا حَتَّى كَفَرُوا، وَسَأَلْتُ النَّصَارَى عَنْ عِيسَى فَأَكْثَرُوا فِيهِ وَزَادُوا وَنَقَصُوا حَتَّى كَفَرُوا بِهِ، وَإِنَّهُ سَيَفْشُو عَنِّي أَحَادِيثُ فَمَا أَتَاكُمْ مِنِّي مِنْ حَدِيثِي فَاقْرَءُوا كِتَابَ اللَّهِ فَاعْتَبِرُوهُ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ وَمَا لَمْ يُوَافِقْ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَفِيهِ أَبُو حَاضِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبَدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " لَا تُمْسِكُوا عَنِّي شَيْئًا فَإِنِّي لَا أُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَلَا أُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَقَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، تَفَرَّدَ بِهِ صَالِحُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، " فِي هَامِشِ النُّسْخَةِ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ هُوَ الْوَاسِطِيُّ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ "، وَغَنِيٌّ عَنِ الْبَيَانِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَقَالِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا فَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ خِلَافَ مُنَاقَضَةٍ، فَإِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ كَمَا فِي التَّعَارُضِ بَيْنَ سَائِرِ النُّصُوصِ كِتَابًا وَسُنَّةً، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ تَرُدُّ ذَلِكَ، فَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، وَقَوْلُهُ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبَعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) إِلَى أَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي دَلَّتْ بِعُمُومِهَا عَلَى قَبُولِ مَا صَحَّ نَقْلُهُ إِلَيْنَا مِنَ الْوَحْيِ كِتَابًا وَسُنَّةً دُونَ فَرْقٍ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: مَا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ "، وَمِنْهُ مَا رَوَوْهُ مِنْ طَرِيقِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكَرِبَ قَالَ: " يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي يَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ أَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ".

الصفحة 323