كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 2)

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَمَا إِذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ بِمَخْبَرٍ وَاحِدٍ تَزَيَّدَ اعْتِقَادُهُ بِذَلِكَ الْمُخْبَرِ، وَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُفِيدًا لِلْعِلْمِ فَالْعِلْمُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلتَّزَيُّدِ وَالنُّقْصَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقَالُ بِأَنَّ الْعِلْمَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلُومِ قَدْ يَكُونُ أَجْلَى مِنْ بَعْضٍ وَأَظْهَرَ، كَالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، فَإِنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْعِلْمِ الْمُكْتَسَبِ، وَالْعِلْمِ بِالْأَعْيَانِ أَقْوَى مِنَ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ تَصَوُّرَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْعُلُومِ مِنْ حَيْثُ هِيَ عُلُومٌ بِزِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، لِانْتِفَاءِ احْتِمَالِ النَّقِيضِ عَنْهَا قَطْعًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ عُلُومًا، بَلْ ظُنُونًا.
وَالتَّفَاوُتُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ وَالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُفْتَقِرٌ فِي حُصُولِهِ إِلَى النَّظَرِ دُونَ الْآخَرِ، أَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْرَعُ حُصُولًا مِنَ الْآخَرِ، لِتَوَقُّفِهِ عَلَى النَّظَرِ.
وَالتَّفَاوُتُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ وَالْعِلْمِ بِالنَّظَرِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِيمَا تَعَلَّقَا بِهِ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْخَبَرِ يَكُونُ مُدْرَكًا بِالْعِيَانِ وَالنَّظَرِ (١) .
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَبَرُ الْوَاحِدُ بِمُجَرَّدِهِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ، لَكَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِنُبُوَّةِ مَنْ أَخْبَرَ بِكَوْنِهِ نَبِيًّا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى مُعْجِزَةٍ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ، وَلَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لِلْحَاكِمِ الْعِلْمُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَأَنْ لَا يَفْتَقِرَ مَعَهُ إِلَى شَاهِدٍ آخَرَ، وَلَا إِلَى تَزْكِيَتِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ طَلَبِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، إِذِ الْعِلْمُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (٢) .
---------------
(١) الظَّاهِرُ أَنَّ الْعِلْمَ مُتَفَاوِتٌ فِي نَفْسِهِ كَمًّا وَقُوَّةً، كَمَا أَنَّهُ مُتَفَاوِتٌ فِي مَسَائِلِهِ وَفِي السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ فِي حُصُولِهِ، وَالْوِجْدَانُ وَالْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ مِنْ شَوَاهِدِ ذَلِكَ، وَأَدِلَّةُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ تُؤَيِّدُ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ.
(٢) لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَمْنَعَ كُلًّا مِنَ الْمُلَازِمَتَيْنِ، فَإِنَّ خَبَرَ الْإِنْسَانِ عَنْ نُبُوَّةِ نَفْسِهِ بِلَا مُعْجِزَةٍ دَعْوَى شَيْءٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ فِي سُنَّةِ اللَّهِ مَعَ خَلْقِهِ، فَلَا تُقْبَلُ حَتَّى تُؤَيَّدَ بِمَا يَجْعَلُهَا جَارِيَةً عَلَى سُنَّتِهِ سُبْحَانَهُ، وَمَا عَهِدَهُ الْبَشَرُ فِي إِرْسَالِهِ رُسُلَهُ، بِخِلَافِ إِخْبَارِ إِنْسَانٍ عَدْلٍ عَنْ مِثْلِهِ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَهَا اعْتِبَارَاتٌ أُخْرَى فِي الشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ وَغَيْرِهِمَا، فَاخْتَلَفَ نِصَابُهَا بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ، فَكَانَ الْوَاجِبُ اعْتِبَارَ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فِيهَا، وَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهَا مُجَرَّدَ حُصُولِ الْعِلْمِ لِلْحَاكِمِ، وَلِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ وَلَا بِعِلْمٍ حَصَلَ لَهُ مِنْ شَهَادَةِ شَهَادَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فِي قَضِيَّةِ زِنًا، أَمَّا أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ أَوِ النُّقْصَانَ، فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِمَا عَرَفْتَ فِيمَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص ٣٤

الصفحة 34