كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 2)

وَأَمَّا جَوَازُ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، إِذَا احْتَفَّتْ بِهِ الْقَرَائِنُ، فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَرِينَةَ قَدْ تُفِيدُ الظَّنَّ مُجَرَّدَةً عَنِ الْخَبَرِ.
وَذَلِكَ كَمَا إِذَا رَأَيْنَا إِنْسَانًا يُكْثِرُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى شَخْصٍ مُسْتَحْسَنٍ، فَإِنَّا نَظُنُّ حُبَّهُ لَهُ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِذَلِكَ مُلَازَمَتُهُ لَهُ، زَادَ ذَلِكَ الظَّنُّ وَلَا يَزَالُ فِي التَّزَايُدِ بِزِيَادَةِ خِدْمَتِهِ لَهُ وَبَذْلِ مَا لَهُ وَتَغَيُّرِ حَالِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَرَائِنِ، حَتَّى يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِحُبِّهِ لَهُ كَمَا فِي تَزَايُدِ الظَّنِّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ حَتَّى يَصِيرَ تَوَاتُرًا.
وَكَذَلِكَ عِلْمُنَا بِخَجَلِ مَنْ هُجِنَ، وَوَجَلِ مَنْ خُوِّفَ، بِاحْمِرَارِ هَذَا وَاصْفِرَارِ هَذَا.
وَبِهَذَا الطَّرِيقِ نَعْلَمُ عِنْدَ ارْتِضَاعِ الطِّفْلِ وُصُولَ اللَّبَنِ إِلَى جَوْفِهِ بِكَثْرَةِ امْتِصَاصِهِ وَازْدِرَادِهِ وَحَرَكَةِ حَلْقِهِ مَعَ كَوْنِ الْمَرْأَةِ شَابَّةً نُفَسَاءَ وَبِسُكُونِ الصَّبِيِّ بَعْدَ بُكَائِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَرَائِنِ.
وَإِذَا كَانَتِ الْقَرَائِنُ الْمُتَضَافِرَةُ بِمُجَرَّدِهَا مُفِيدَةً لِلْعِلْمِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَقْتَرِنَ بِالْخَبَرِ الْمُفِيدِ لِلظَّنِّ مُفِيدَةً لِلظَّنِّ، قَائِمَةً مَقَامَ اقْتِرَانِ خَبَرٍ آخَرَ بِهِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ التَّزَايُدُ فِي الظَّنِّ بِزِيَادَةِ اقْتِرَانِ الْقَرَائِنِ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ، كَمَا فِي خَبَرِ التَّوَاتُرِ.
وَإِذَا ثَبَتَ الْجَوَازُ فَبَيَانُ الْوُقُوعِ أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ وَاحِدٌ أَنَّ وَلَدَ الْمَلِكِ قَدْ مَاتَ، وَاقْتَرَنَ بِذَلِكَ عِلْمُنَا بِمَرَضِهِ، وَأَنَّهُ لَا مَرِيضَ فِي دَارِ الْمَلِكِ سِوَاهُ، وَمَا شَاهَدْنَاهُ مِنَ الصُّرَاخِ الْعَالِي فِي دَارِهِ، وَالنَّحِيبِ الْخَارِجِ عَنِ الْعَادَةِ، وَخُرُوجِ الْجِنَازَةِ مُحْتَفَّةً بِالْخَدَمِ، وَالْجَوَارِي حَاسِرَاتٍ مُبْرِحَاتٍ يَلْطُمْنَ خُدُودَهُنَّ، وَيَنْتِفْنَ شُعُورَهُنَّ، وَالْمَلِكُ مُمَزَّقُ الثَّوْبِ حَاسِرُ الرَّأْسِ يَلْطُمُ وَجْهَهُ، وَهُوَ مُضْطَرِبُ الْبَالِ، مُشَوَّشُ الْحَالِ، عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ مِنَ الْتِزَامِ الْوَقَارِ وَالْهَيْبَةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أَسْبَابِ الْمُرُوءَةِ فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ سَمِعَ ذَلِكَ الْخَبَرَ، وَشَاهَدَ هَذِهِ الْقَرَائِنَ يَعْلَمُ صِدْقَ ذَلِكَ الْمُخْبِرِ، وَيَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِمُخْبَرِهِ، كَمَا يَعْلَمُ صِدْقَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ وَوُقُوعَ مُخْبَرِهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ، مَعَ كَمَالِ عَقْلِهِ وَحُبِّهِ لِحَيَاةِ نَفْسِهِ وَكَرَاهَتِهِ لِلْأَلَمِ، وَهُوَ فِي أَرْغَدِ عِيشَةٍ، نَافِذُ الْأَمْرِ، قَائِمُ الْجَاهِ أَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا عُدْوَانًا، بِآلَةٍ يُقْتَلُ مِثْلُهَا غَالِبًا، مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ لَهُ فِي قَتْلِهِ، وَلَا مَانِعَ لَهُ مِنَ الْقِصَاصِ، كَانَ خَبَرُهُ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِصِدْقِهِ عَادَةً.
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي جِوَارِ إِنْسَانٍ امْرَأَةٌ حَامِلٌ، وَقَدِ انْتَهَتْ مُدَّةُ حَمْلِهَا، فَسَمِعَ الطَّلْقَ مِنْ وَرَاءِ الْجِدَارِ، وَضَجَّةَ النِّسْوَانِ حَوْلَ تِلْكَ الْحَامِلِ، ثُمَّ سَمِعَ صُرَاخَ

الصفحة 37