كتاب الإحكام في أصول الأحكام - الآمدي (اسم الجزء: 2)

وَبِتَقْدِيرِ دَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْقَبُولِ، لَكِنَّهَا دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا فِي الْأُصُولِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ لِلَّهِ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ.
وَمَنْ أَخْبَرَ عَنِ الرَّسُولِ بِمَا سَمِعَهُ مِنْهُ، فَقَدْ قَامَ بِالْقِسْطِ وَشَهِدَ لِلَّهِ، فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا إِنْ لَوْ كَانَ الْقَبُولُ وَاجِبًا، وَإِلَّا كَانَ وُجُودُ الشَّهَادَةِ كَعَدَمِهَا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا أُسَلِّمُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ لِلَّهِ عَلَى مَا يَأْتِي، وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهَا عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ وَالْقِيَامَ بِالْقِسْطِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ.
وَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فَلَا يَكُونُ قِيَامًا بِالْقِسْطِ وَلَا شَهَادَةً لِلَّهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ فِي وُجُوبِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ.
عَلَى أَنَّهُ قَامَ بِالْقِسْطِ وَأَنَّهُ شَاهِدٌ لِلَّهِ، وَقِيَامُهُ بِالْقِسْطِ وَشَهَادَتُهُ لِلَّهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ وَجَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ شَهِدَ لِلَّهِ وَقَامَ بِالْقِسْطِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ وَاجِبُ الْقَبُولِ؛ وَدَلِيلُهُ مَا سَبَقَ، وَبِتَقْدِيرِ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَبُولِ، وَلَكِنْ لِجِهَةِ الظَّنِّ فَلَا يَصِحُّ (١) .

وَمِنْهَا مَا اشْتُهِرَ وَاسْتَفَاضَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُنْفِذُ آحَادَ الصَّحَابَةِ إِلَى النَّوَاحِي وَالْقَبَائِلِ وَالْبِلَادِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَبْلِيغِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ، وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَقَبْضِ الزَّكَوَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مَعَ عِلْمِنَا بِتَكْلِيفِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ لِقَبُولِ قَوْلِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ، وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى مَا يَقُولُ مَعَ كَوْنِ الْمُنَفِّذِ مِنَ الْآحَادِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةً لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
---------------
(١) يُعْرَفُ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ تَعْلِيقًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا لَمْ تَفِدِ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ مُتَفَرِّدَةً، فَمَجْمُوعُهَا يُفِيدُ ذَلِكَ؛ إِذْ لِلِاجْتِمَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلِانْفِرَادِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَفَادَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالِاسْتِقْرَاءِ الْيَقِينَ.

الصفحة 62