كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 2)

إِلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ بِذَلِكَ الضَّمِيرِ، فَعَلِمَ أَنَّ الَّذِي يُخَاطِبُهُ هُوَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ. وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ" الْقَصَصِ" بَيَانُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ" «١» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ" قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: هُمْ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ التَّوْرَاةَ فَيَجْعَلُونَ الْحَرَامَ حَلَالًا وَالْحَلَالَ حَرَامًا اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ." مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ" أَيْ عَرَفُوهُ وَعَلِمُوهُ. وَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ، أَيْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ قَدْ سَلَفَتْ لِآبَائِهِمْ أَفَاعِيلُ سُوءٍ وَعِنَادٍ، فَهَؤُلَاءِ عَلَى ذَلِكَ السُّنَنِ، فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ فِي إِيمَانِهِمْ!. وَدَلَّ هَذَا الْكَلَامُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ بِالْحَقِّ الْمُعَانِدِ فِيهِ بَعِيدٌ مِنَ الرُّشْدِ، لِأَنَّهُ عَلِمَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَلَمْ ينهه ذلك عن عناده.

[سورة البقرة (٢): الآيات ٧٦ الى ٧٧]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا" هذا الْمُنَافِقِينَ. وَأَصْلُ" لَقُوا" لَقِيُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢»." وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ" الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاسًا مِنْهُمْ أَسْلَمُوا ثُمَّ نَافَقُوا، فَكَانُوا يُحَدِّثُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِمَا عُذِّبَ بِهِ آبَاؤُهُمْ، فَقَالَتْ لَهُمُ الْيَهُودُ:" أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ" أَيْ حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، لِيَقُولُوا نَحْنُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ. وَقِيلَ: إِنَّ عَلِيًّا لَمَّا نَازَلَ قُرَيْظَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ سَمِعَ سَبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَبْلُغْ إِلَيْهِمْ، وَعَرَضَ لَهُ، فَقَالَ:" أَظُنُّكَ سَمِعْتَ شَتْمِي مِنْهُمْ لَوْ رَأَوْنِي لَكَفُّوا عَنْ ذَلِكَ" وَنَهَضَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمْسَكُوا، فَقَالَ لَهُمْ: (أَنَقَضْتُمُ الْعَهْدَ يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ أَخْزَاكُمُ الله وأنزل بكم نقمته) فقالوا:
---------------
(١). راجع ج ١٣ ص ٢٨١. [ ..... ]
(٢). راجع ج ١ ص ٢٠٦ طبعه ثانية

الصفحة 3