كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 2)

نُعِشَ نَعْشًا لِقُرْبِ الْمَسَافَةِ بِالْبَيْتِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: كُلُّ مَنْ مَنَعَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أَوْ ذَهَابِ تفقه أَوْ إِضْلَالِ رَاحِلَةٍ أَوْ لَدْغِ هَامَةٍ فَإِنَّهُ يَقِفُ مَكَانَهُ عَلَى إِحْرَامِهِ وَيَبْعَثُ بِهَدْيِهِ أَوْ بِثَمَنِ هَدْيِهِ، فَإِذَا نَحَرَ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ. كَذَلِكَ قَالَ عُرْوَةُ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ" الْآيَةَ. السَّادِسَةُ- قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: لَا يَنْفَعُ الْمُحْرِمَ الِاشْتِرَاطُ في الحج إذا خاف الحصر يمرض أَوْ عَدُوٍّ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِمْ. وَالِاشْتِرَاطُ أَنْ يَقُولَ إِذَا أَهَلَّ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي مِنَ الْأَرْضِ. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ وَلَهُ شَرْطُهُ، وَقَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ المطلب أنها أنت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرَدْتُ الْحَجَّ، أَأَشْتَرِطُ؟ قَالَ: (نَعَمْ). قَالَتْ: فَكَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: (قُولِي لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ وَمَحِلِّي مِنْ الْأَرْضِ حَيْثُ حَبَسْتَنِي). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ ضُبَاعَةَ لَمْ أَعُدْهُ، وَكَانَ مَحِلَّهُ حَيْثُ حَبَسَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: قَدْ صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لضباعة بنت الزبير: (حجي واشترطي). وجه قَالَ الشَّافِعِيُّ إِذْ هُوَ بِالْعِرَاقِ، ثُمَّ وَقَفَ عَنْهُ بِمِصْرَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ. وَذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قال: أخبرني أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّ طَاوُسًا وَعِكْرِمَةَ أَخْبَرَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتْ ضُبَاعَةُ بِنْتُ الزُّبَيْرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ «١» وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أُهِلَّ؟ قَالَ: (أَهِلِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي). قَالَ: فَأَدْرَكَتْ «٢». وَهَذَا إسناد صحيح.
---------------
(١). أي أثقلى المرض.
(٢). أي أدركت الحج ولم تحللى حتى فرغت منه.

الصفحة 375