كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 2)

بِلَا خِلَافٍ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَرَدَ فِيمَنْ وَرَدَ فِيهِ وَسَطَهَا وَآخِرَهَا، لِاتِّسَاقِ الْكَلَامِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَانْتِظَامِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَرُجُوعِ الْإِضْمَارِ فِي آخِرِ الْآيَةِ إِلَى مَنْ خُوطِبَ فِي أَوَّلِهَا، فَيَجِبُ حَمْلٌ ذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِهِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى الْعُدُولِ عَنْهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ:" عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ وَقَمْلُهُ يَتَسَاقَطُ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ: (أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ) قَالَ نَعَمْ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا «١» بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أَوْ يُهْدِيَ شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ أَيْضًا. فَقَوْلُهُ:" وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا" يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ حَصْرِ الْعَدُوِّ لَهُمْ، فَإِذَا الْمُوجِبُ لِلْفِدْيَةِ الْحَلْقُ لِلْأَذَى وَالْمَرَضِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْمُحْرِمِ يُصِيبُهُ أَذًى فِي رَأْسِهِ: إِنَّهُ يُجْزِيهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْفِدْيَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَعْنَى" فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ" إِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْلِقَ، وَمَنْ قَدَرَ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ، فَلَا يَفْتَدِي حَتَّى يَحْلِقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُلُّ مَنْ ذَكَرَ النُّسُكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُفَسَّرًا فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ بِشَاةٍ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا الصَّوْمُ وَالْإِطْعَامُ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ مَحْفُوظٌ صَحِيحٌ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ. وَجَاءَ عَنِ الْحَسَنِ وعكرمة ونافع أنهم قَالُوا: الصَّوْمُ فِي فِدْيَةِ
الْأَذَى عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَالْإِطْعَامُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِهَذَا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَلَا أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ جاء من رواية أبي الزبير عن
---------------
(١). الفرق (بالتحريك): مكيال يسع سنة عشر رطلا، وهى اثنا عشر مدا، أو ثلاثة عند أهل الحجازه وقيل: خمسة أقساط: والقسط: نصف صاع. والفرق (بالسكون): مائة وعشرون رطلا. عن نهاية ابن الأثير.

الصفحة 383