كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 2)

الْإِفْرَادُ وَالْقِرَانُ وَهُمَا سُنَّتَانِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ فِي اخْتِيَارِهِ التَّمَتُّعَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً). أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْقِرَانُ أَفْضَلُ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ، وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ قَالَ: لِأَنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ. قَالَ إِسْحَاقُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِنًا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَاحْتَجَّ مَنِ اسْتَحَبَّ الْقِرَانَ وَفَضَّلَهُ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْعَقِيقِ «١» يَقُولُ: (أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ). وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ). وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالْإِفْرَادُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَفْضَلُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا، فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّهُ أَفْضَلَ، لِأَنَّ الْآثَارَ أَصَحُّ عَنْهُ فِي إِفْرَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَنَّ الْإِفْرَادَ أَكْثَرُ عَمَلًا ثُمَّ الْعُمْرَةُ عَمَلٌ آخَرُ. وَذَلِكَ كُلُّهُ طَاعَةٌ وَالْأَكْثَرُ مِنْهَا أَفْضَلُ. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: الْمُفْرِدُ أَكْثَرُ تَعَبًا مِنَ الْمُتَمَتِّعِ، لِإِقَامَتِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ وَذَلِكَ أَعْظَمُ لِثَوَابِهِ. وَالْوَجْهُ فِي اتِّفَاقِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَنَا بِالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ جَازَ أَنْ يُقَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرن، كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ:" وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ" «٢» [الزخرف: ٥١]. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: رَجَمْنَا وَرَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالرَّجْمِ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ فِي حَجَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْقِرَانُ، وَأَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، لِحَدِيثِ عُمَرَ وَأَنْسٍ الْمَذْكُورَيْنِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا) «٣». قَالَ بَكْرٌ: فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: لَبِّي بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ أَنَسٍ: مَا تَعُدُّونَنَا إِلَّا صِبْيَانًا! سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَهَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعمرة
---------------
(١). العقيق: موضع بينه وبين المدينة أربعة أميال.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٩٨.
(٣). عبارة مسلم:" جميعا".

الصفحة 389