كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 2)

دَخَلَ فِيهَا أَمْرًا مُطْلَقًا، وَلَا يَجِبُ أَنْ يُخَالِفَ ظَاهِرَ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا إِلَى مَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ مِنْ كِتَابٍ نَاسِخٍ أَوْ سُنَّةٍ مُبَيَّنَةٍ. وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَبِحَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فُسِخَ الْحَجُّ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ قَالَ: (بَلْ لَنَا خَاصَّةً). وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ والعراق والشام، إلا شي يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا أَرُدُّ تِلْكَ الْآثَارَ الْوَارِدَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ الصِّحَاحَ فِي فَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ بِحَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالٍ عَنْ أَبِيهِ وَبِقَوْلِ أَبِي ذَرٍّ. قَالَ: وَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَى مَا قَالَ أَبُو ذَرٍّ، وَلَوْ أَجْمَعُوا كَانَ حُجَّةً، قَالَ: وَقَدْ خَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَبَا ذَرٍّ وَلَمْ يَجْعَلْهُ خُصُوصًا. وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي الْحَجِّ، وَفِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً) فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكُ بْنُ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لأبد؟ فشك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى وَقَالَ: (دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الحج- مرتين «١» - لا بل لا بد أَبَدٍ) لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَإِلَى هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَالَ الْبُخَارِيُّ حَيْثُ تَرْجَمَ" بَابَ مَنْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَسَمَّاهُ" وَسَاقَ حَدِيثَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِحْلَالِ كَانَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ. وَذَكَرَ مُجَاهِدٌ ذَلِكَ الْوَجْهَ، وَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانُوا فَرَضُوا الْحَجَّ أَوَّلًا، بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ يُهِلُّوا مُطْلَقًا وَيَنْتَظِرُوا مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ، وَكَذَلِكَ أَهَلَّ عَلِيٌّ بِالْيَمَنِ. وَكَذَلِكَ كَانَ إِحْرَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً) فَكَأَنَّهُ خَرَجَ يَنْتَظِرُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ وَيَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقَالَ قُلْ حَجَّةً فِي عُمْرَةٍ).
---------------
(١). قوله: مرتين. أي قاله مرتين.

الصفحة 394