كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 2)

مُؤَلَّفٌ يُعَظِّمُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، وَتُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمَقَادِيرُ وَالْكَائِنَاتُ. الثَّانِي: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ كُفْرٌ فَقَالَ:" وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ" بِقَوْلِ السِّحْرُ" وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا" بِهِ وَبِتَعْلِيمِهِ، وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ يَقُولَانِ:" إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ" وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلْبَيَانِ. احْتَجَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ بِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، لِأَنَّ السِّحْرَ بَاطِنٌ لَا يُظْهِرُهُ صَاحِبُهُ فَلَا تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ كَالزِّنْدِيقِ، وَإِنَّمَا يُسْتَتَابُ مَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ مُرْتَدًّا، قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ جَاءَ السَّاحِرُ أَوِ الزِّنْدِيقُ تَائِبًا قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِمَا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُمَا، وَالْحُجَّةُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «١» " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ، فَكَذَلِكَ هَذَانَ. الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وَأَمَّا سَاحِرُ الذِّمَّةِ، فَقِيلَ يُقْتَلُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا أَنْ يَقْتُلَ بِسِحْرِهِ وَيَضْمَنَ مَا جَنَى، وَيُقْتَلُ إِنْ جَاءَ مِنْهُ مَا لَمْ يُعَاهَدْ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: فَأَمَّا إِذَا كَانَ ذِمِّيًّا فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ، فَقَالَ مَرَّةً: يُسْتَتَابُ وَتَوْبَتُهُ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ مَرَّةً: يُقْتَلُ وَإِنْ أَسْلَمَ. وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَا يُقْتَلُ إِذَا تَابَ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي ذِمِّيٍّ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُسْتَتَابُ وَتَوْبَتُهُ الْإِسْلَامُ. وَقَالَ مَرَّةً: يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ كَالْمُسْلِمِ. وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا فِي الذِّمِّيِّ إِذَا سُحِرَ: يُعَاقَبُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَتَلَ بِسِحْرِهِ، أَوْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِقَدْرِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ قَدْ نَقَضَ الْعَهْدَ. وَلَا يَرِثُ السَّاحِرُ وَرَثَتُهُ، لِأَنَّهُ كَافِرٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سِحْرُهُ لَا يُسَمَّى كُفْرًا. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ تَعْقِدُ زَوْجَهَا عَنْ نَفْسِهَا أَوْ عَنْ غَيْرِهَا: تُنَكَّلُ وَلَا تُقْتَلُ. الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- واختلفوا هل يسئل السَّاحِرُ حَلَّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ، فَأَجَازَهُ سَعِيدُ ابن الْمُسَيَّبِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْمُزَنِيُّ وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا بَأْسَ بِالنُّشْرَةِ «٢». قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِي كِتَابِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنْ يَأْخُذَ سَبْعَ وَرَقَاتٍ من سدر
---------------
(١). راجع ج ١٥ ص ٣٣٦.
(٢). النشرة (بالضم): ضرب من الرقية والعلاج، يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن، لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يكشف ويزال.

الصفحة 49