كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 2)
فَكَانَتِ الْمِلَّةُ وَالشَّرِيعَةُ سَوَاءٌ، فَأَمَّا الدِّينُ فَقَدْ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِلَّةِ وَالشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ الْمِلَّةَ وَالشَّرِيعَةَ مَا دَعَا اللَّهُ عِبَادَهُ إِلَى فِعْلِهِ، وَالدِّينُ مَا فَعَلَهُ الْعِبَادُ عَنْ أَمْرِهِ. الثَّانِيَةُ- تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أبو حنيفة والشافعي وداود وأحمد ابن حَنْبَلٍ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" مِلَّتَهُمْ" فَوَحَّدَ الْمِلَّةَ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ «١» "، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ) عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِسْلَامُ وَالْكُفْرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ الْكَافِرُ). وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِلَى أَنَّ الْكُفْرَ مِلَلٌ، فَلَا يَرِثُ الْيَهُودِيُّ النَّصْرَانِيَّ، وَلَا يَرِثَانِ الْمَجُوسِيَّ، أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ)، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِلَّتَهُمْ" فَالْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُوَحَّدَةً فِي اللَّفْظِ بِدَلِيلِ إِضَافَتِهَا إِلَى ضَمِيرِ الْكَثْرَةِ، كَمَا تَقُولُ: أَخَذْتُ عَنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ- مَثَلًا- عِلْمَهُمْ، وَسَمِعْتُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ، يَعْنِي عُلُومَهُمْ وَأَحَادِيثَهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى " الْمَعْنَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ هُدَى اللَّهِ الْحَقِّ الَّذِي يَضَعُهُ فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ هُوَ الْهُدَى الْحَقِيقِيُّ، لَا مَا يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ" الْأَهْوَاءُ جَمْعُ هَوًى، كَمَا تَقُولُ: جَمَلٌ وَأَجْمَالٌ، وَلَمَّا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً جُمِعَتْ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى أَفْرَادِ الْمِلَّةِ لَقَالَ هَوَاهُمْ. وَفِي هَذَا الْخِطَابِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ لِلرَّسُولِ، لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي- أَنَّهُ لِلرَّسُولِ وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ فِيهِ تَأْدِيبٌ لِأُمَّتِهِ، إِذْ مَنْزِلَتُهُمْ دُونَ مَنْزِلَتِهِ. وَسَبَبُ الْآيَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ المسالمة والهدية، وَيَعِدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ لَنْ يَرْضَوْا عَنْهُ حَتَّى يتبع ملتهم، وأمره بجهادهم. قَوْلُهُ تَعَالَى:" مِنَ الْعِلْمِ" سُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَمَّنْ يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَقَالَ: كَافِرٌ، فَقِيلَ: بِمَ كَفَّرْتَهُ؟ فَقَالَ: بِآيَاتٍ مِنْ كِتَابِ الله تَعَالَى:" وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
«٢» " وَالْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ. فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر.
---------------
(١). راجع ج ٢٠ ص ٢٢٩.
(٢). راجع ج ٩ ص ٣٢٦.
الصفحة 94