كتاب سبل السلام - البابي الحلبي (اسم الجزء: 2)

المواقيت (فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة) يحرمون (من مكة) بحج أو عمرة (متفق عليه). فهذه المواقيت التي عينها صلى الله عليه وسلم لمن ذكره من أهل الآفاق، وهي أيضاً مواقيت لمن أتى عليها، وإن لم يكن من أهل تلك الآفاق المعينة، فإنه يلزمه الإحرام منها إذا أتى عليها قاصداً لإتيان مكة لأحد النسكين، فيدخل في ذلك ما إذا ورد الشامي مثلاً إلى ذي الحليفة فإنه يجب عليه الإحرام منها، ولا يتركه حتى يصل الجحفة، فإن أخر أساء ولزمه دم هذا عند الجمهور.وقالت المالكية: إنه يجوز له التأخير إلى ميقاته، وإن كان الأفضل له خلافه، قالوا: والحديث محتمل فإن قوله "هنّ لهنّ" ظاهره العموم لمن كان من أهل تلك الأقطار، سواء ورد على ميقاته أو ورد على ميقات آخر فإن له العدول إلى ميقاته، كما لو ورد الشامي على ذي الحليفة فإنه لا يلزمه الإحرام منها بل يحرم من الجحفة. وعموم قوله: "ولمن أتى عليهنّ من غيرهنّ" يدل على أنه يتعين على الشامي في مثالنا: أن يحرم من ذي الحليفة لأنه من غير أهلهنّ. قال ابن دقيق العيد: قوله: "ولأهل الشام الجحفة" يشمل من مرّ من أهل الشام بذي الحليفة ومن لم يمرّ وقوله: "ولمن أتى عليهن من غير أهلهنّ" يشمل الشامي إذا مر بذي الحليفة وغيره، فههنا عمومان قد تعارضا انتهى ملخصاً. قال المصنف: ويحصل الانفكاك بأن قوله: "هنّ لهنّ" ، مفسر لقوله مثلاً: "وقت لأهل المدينة ذا الحليفة" وأن المراد بأهل المدينة ساكنوها، ومن سلك طريق ميقاتهم فمرّ على ميقاتهم انتهى. قلت: وإن صح ما قد روي من حديث عروة "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم وقت لأهل المدينة ومن مر بهم ذا الحليفة" تبين أن الجحفة إنما هي ميقات للشامي إذا لم يأت المدينة. ولأن هذه المواقيت محيطة بالبيت كإحاطة جوانب الحرم، فكل من مرّ بجانب من جوانبه لزمه تعظيم حرمته، وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض ودل قوله: "ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ" على أن من كان بين الميقات ومكة فميقاته حيث أنشأ الإحرام، إما من أهله ووطنه، أو من غيره. وقوله: "حتى أهل مكة من مكة" دل على أن أهل مكة يحرمون من مكة، وأنها ميقاتهم، سواء كان من أهلها أو من المجاورين أو الواردين إليها، أحرم بحج أو عمرة. وفي قوله: "ممن أراد الحج والعمرة" ما يدل أنه لا يلزم الإحرام إلا من أراد دخول مكة لأحد النسكين، فلو لم يرد ذلك جاز له دخولها من غير إحرام، وقد دخل ابن عمر بغير إحرام، ولأنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج، والعمرة عند من أوجبها إنما تجب مرة واحدة، فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة، ومن قال: إنه لا يجوز مجاوزة الميقات إلا بالإحرام إلا من استثنى من أهل الحاجات كالحطابين فإن له في ذلك آثاراً عن السلف ولا تقوم بها حجة. فمن دخل مريداً مكة لا ينوي نسكاً من حج ولا عمرة وجاوز ميقاته بغير إحرام، فإن بدا له إراده أحد النسكين أحرم من حيث أراد ولا يلزمه أن يعود إلى ميقاته. واعلم أن قوله: "حتى أهل مكة من مكة" يدل أن ميقات عمرة أهل مكة كحجهم، وكذلك القارن منهم، ميقاته مكة ولكن قال المحب الطبري: إنه لا يعلم أحداً جعل مكة ميقاتاً للعمرة، وجوابه أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلّم جعلها ميقاتاً لها بهذا الحديث، وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال: "يا أهل

الصفحة 186