كتاب سبل السلام - البابي الحلبي (اسم الجزء: 2)

للمحرم مطلقاً، لأنه علل صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ردّه لكونه محرماً، ولم يستفصل هل صاده لأجله أولاً، فدل على التحريم مطلقاً، وأجاب من جوّزه بأنه محمول على أنه صيد لأجله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فيكون جمعاً بينه وبين حديث أبي قتادة، والجمع بين الأحاديث إذا أمكن أولى من إطراح بعضها، وقد دل لهذا أن في حديث أبي قتادة الماضي عند أحمد وابن ماجه بإسناد جيد: "إنما صدته له وأنه أمر أصحابه يأكلون ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له" . قال أبو بكر النيسابوري: قوله "اصطدته لك" وأنه "لم يأكل منه" : لا أعلم أحداً قاله في هذا الحديث غير معمر. قلت: معمر ثقة لا يضر تفرّده ويشهد للزيادة حديث جابر الذي قدّمناه.
وفي الحديث دليل على أنه ينبغي قبول الهدية وإبانة المانع من قبولها إذا ردّها.
واعلم أن ألفاظ الروايات اختلفت فقال الشافعي: إن كان الصعب أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم الحمار حياً فليس للمحرم ذبح حمار وحشي، وإن كان أهدى لحم حمار فيحتمل أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قد فهم أنه صاده لأجله، وأما رواية "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أكل منه" التي أخرجها البيهقي فقد ضعفها ابن القيم، ثم إنه استقوى من الروايات رواية لحم حمار قال: لأنها لا تنافي رواية من روى حماراً لأنه قد يسمى الجزء باسم الكل وهو شائع في اللغة، ولأن أكثر الروايات اتفقت أنه بعض من أبعاض الحمار، وإنما وقع الاختلاف في ذلك البعض ولا تناقض بينها فإنه يحتمل أن يكون المهدي من الشق الذي فيه العجز الذي فيه رجله.
9- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خمس من الدواب كلُّهنَّ فواسق يقتلن في الحلِّ والحرم: الغراب والحدأة" بكسر الحاء المهملة وفتح الدال بعدها همزة "والعقرب" يقال على الذكر والأنثى وقد يقال عقربة "والفأرة" بهمزة ساكنة ويجوز تخفيفها ألفاً "والكلب العقور" متفق عليه) وفي رواية في البخاري زيادة ذكر الحية فكانت ستاً، وقد أخرجها بلفظ "ست" أبو عوانة وسرد الخمس مع الحية، ووقع عند أبي داود زيادة السبع العادي، فكانت سبعاً، ووقع عند أبن خزيمة وابن المنذر زيادة: الذئب والنمر، فكانت تسعاً إلا أنه نقل عن الذهلي أنه ذكرهما في تفسير الكلب العقور، ووقع ذكر الذئب في حديث مرسل رجاله ثقات. وأخرج أحمد مرفوعاً الأمر للمحرم بقتل الذئب وفيه راو ضعيف. وقد دلت هذه الزيادات أن مفهوم العدد غير مراد من قوله خمس. والدواب: بتشديد الباء جمع دابة وهو ما دب من الحيوان، وظاهره أنه يسمى الطائر دابة، وهو يطابق قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ، {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} وقيل: يخرج الطائر من لفظ الدابة لقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} ولا حجة، لأنه يحتمل أنه عطف خاص على عام. هذا وقد اختص في العرف لفظ الدابة بذوات الأربع القوائم. وتسميتها فواسق: لأن الفسق لغة: الخروج، ومنه {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} أي خرج، ويسمى العاصي فاسقاً، لخروجه عن طاعة ربه، ووصفت المذكورة بذلك لخروجها عن حكم غيرها من الحيوانات، في تحريم قتل المحرم لها، وقيل: لخروجها عن غيرها من الحيوانات في حل أكله لقوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فسمي ما لا يؤكل فسقاً قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ

الصفحة 194