كتاب إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (اسم الجزء: 2)

والثانى: أن يقول: التواتر وشهادات الأمم حقق ذلك عندى، كما حققت شهادتهم وجود البلاد النائية، والبحار، والأنهار المعروفة وإن لم أشاهدها.
فإن اختار الجواب الأول، وقال: إن شهادة أبى وإخباره إياى بنبوة موسى هى سبب تصديقى بنبوته.
قلنا له: ولم كان أبوك عندك صادقا فى ذلك، معصوماً عن الكذب؟ وأنت ترى الكفار يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك. فإذا كنت ترى الأديان الباطلة، والمذاهب الفاسدة، قد أخذها أربابها عن آبائهم كأخذك مذهبك عن أبيك، وأنت تعلم أن الذى هم عليه ضلال. فلزمك أن تبحث ما أخذته عن أبيك، خوفا أن تكون هذه حاله.
فإن قال: إن الذى أخذته عن أبى أصح من الذى أخذه الناس عن آبائهم، كفاه معارضة غيره له بمثل قوله.
فإن قال: أبى أصدق من آبائهم وأعرف وأفضل، عارضه سائر الناس فى آبائهم بنظير ذلك.
فإن قال: أنا أعرف حال أبى، ولا أعرف حال غيره.
قيل له: فما يؤمنك أن يكون غير أبيك أصدق من أبيك، وأصدق وأعرف؟.
وبكل حال. فإن كان تقليد أبيه حجة صحيحة، كان تقليد غيره لأبيه كذلك. وإن كان ذلك باطلا، كان تقليده لأبيه باطلا.
فإن رجع عن هذا الجواب واختار الجواب الثانى، وقال: إنما علمت نبوة موسى بالتواتر قرنا بعد قرن. فإنهم أخبروا بظهوره وبمعجزاته وآياته وبراهين نبوته التى تضطرنى إلى تصديقه.
فيقال له: لا ينفعك هذا الجواب. لأنك قد أبطلت ما شهد به التواتر من نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:
فإن قلت: تواتر ظهور موسى ومعجزاته وآياته، ولم يتواتر ذلك فى المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
قيل لك: هذا هو اللائق ببهت الأمة الغضبية. فإن الأمم جميعهم قد عرفوا أنهم قوم بهت. وإلا فمن المعلوم أن الناقلين لمعجزات المسيح ومحمد صلى الله تعالى عليهما وسلم أضعاف أضعافكم بكثير. والمعجزات التى شاهدها أوائلهم لا تنقص عن المعجزات التى أتى بها موسى عليه السلام، وقد نقلها عنهم أهل التواتر جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن. وأنت لا تقبل

الصفحة 349