كتاب حاشية البجيرمي على الخطيب = تحفة الحبيب على شرح الخطيب (اسم الجزء: 2)

وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ قَالَ: «إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ لَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ» أَيْ لَا يَجُوزُ تَنْفِيرُ صَيْدِهِ لِمُحْرِمٍ وَلَا لِحَلَالٍ، فَغَيْرُ التَّنْفِيرِ أَوْلَى. وَقِيسَ بِمَكَّةَ بَاقِي الْحَرَمِ فَإِنْ أَتْلَفَ فِيهِ صَيْدًا ضَمِنَهُ كَمَا مَرَّ فِي الْمُحْرِمِ، وَأَمَّا حَرَمُ الْمَدِينَةِ فَحَرَامٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْت الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا» وَلَكِنْ لَا يَضْمَنُ فِي الْجَدِيدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحِلًّا لِلنُّسُكِ بِخِلَافِ حَرَمِ مَكَّةَ.

(وَلَا) يَجُوزُ (قَطْعُ) وَلَا قَلْعُ (شَجَرِهِ) أَيْ حَرَمِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَسَوَاءٌ فِي الشَّجَرِ الْمُسْتَنْبَتِ وَغَيْرِهِ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَمَحَلُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَّمَهُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَقِيلَ: إنَّ الْحَجَرَ لَمَّا نَزَلَ مِنْ الْجَنَّةِ كَانَ شَدِيدَ الْبَيَاضِ فَوَصَلَ شُعَاعُهُ إلَى هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ، وَقِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّدَهُ حِينَ حَجَّ؛ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ،. اهـ. ق ل. وَقَوْلُهُ: " مِنْ أَرْضِ طِيبَةَ " أَيْ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّنْعِيمِ، وَقَوْلُهُ " جِعْرَانَهْ " بِالتَّشْدِيدِ وَلَوْ قَالَ لِجِعْرَانَهْ بِاللَّامِ لَسَلِمَ مِنْ التَّشْدِيدِ الَّذِي أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ بَلْ عَيَّنَ فِيهَا التَّخْفِيفَ. وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ بِاسْمِ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ سَاكِنَةٍ بِهَا تُسَمَّى جِعْرَانَةُ اهـ. وَقَوْلُهُ: " إنَّ إبْرَاهِيمَ إلَخْ " وَيُرْوَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ أَنْ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الشَّيَاطِينِ فَاسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَائِكَةً حَفُّوا بِمَكَّةَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَكَانَ الْحَرَمُ مِنْ حَيْثُ وَقَفَتْ الْمَلَائِكَةُ كَمَا فِي مَنَاسِكِ ابْنِ جَمَاعَةَ الْبَكْرِيِّ.
قَوْلُهُ: (صَيْدُ الْحَرَمِ) أَيْ الْحَرَمَيْنِ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ. قَوْلُهُ: (مُلْتَزَمُ الْأَحْكَامِ) لَيْسَ قَيْدًا إلَّا فِي الضَّمَانِ. قَوْلُهُ: (بِحُرْمَةِ اللَّهِ) أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ الْقَدِيمِ الْأَزَلِيِّ، الْمُتَعَلِّقُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِهَا وَيَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا التَّعَلُّقُ مُرَادُ مَنْ عَبَّرَ بِتَحْرِيمِهَا يَوْمئِذٍ. وَبِهَذَا يُجَابُ عَمَّا اسْتَشْكَلَهُ سم، اهـ شَوْبَرِيٌّ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا حَرَمُ الْمَدِينَةِ فَحَرَامٌ إلَخْ) الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ وَأَمَّا حَرَمُ الْمَدِينَةِ فَلِقَوْلِهِ إلَخْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الدَّلِيلُ. قَوْلُهُ: (حَرَّمَ مَكَّةَ) أَيْ أَظْهَرَ تَحْرِيمَهَا، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ قَدِيمٌ، فَلَا يُنَافِي الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ؛ وَقَوْلُهُ: " وَإِنِّي حَرَّمْت الْمَدِينَةَ " أَيْ أَحْدَثْتُ تَحْرِيمَهَا بِأَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ مُفَوَّضًا إلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا) بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَ اللَّابَتَيْنِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَاللَّابَتَانِ تَثْنِيَةُ لَابَةٍ، وَهِيَ أَرْضٌ ذَاتُ حِجَارَةٍ سُودٍ، وَهُمَا شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ وَغَرْبِيَّهَا، فَحَرَمُهَا مَا بَيْنَهُمَا عَرْضًا وَمَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا عَيْرٌ وَثَوْرٌ طُولًا، شَرْحُ الْمَنْهَجِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ ذِكْرَ ثَوْرٍ هُنَا وَهُوَ بِمَكَّةَ مِنْ غَلَطِ الرُّوَاةِ، وَأَنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ " أُحُدٌ ". وَدُفِعَ بِأَنَّ وَرَاءَهُ جَبَلًا صَغِيرًا يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ وَهُوَ غَيْرُ ثَوْرٍ الَّذِي بِمَكَّةَ ز ي وح ف؛ لَكِنْ كَانَ الْمُنَاسِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُولَ مَا بَيْنَ عَيْرٍ وَأُحُدٍ فَكَانَ يَأْتِي بِأُحُدٍ بَدَلَ ثَوْرٍ.
قَوْلُهُ: (عِضَاهُهَا) بِهَاءَيْنِ جَمْعُ عِضَاهَةٍ أَوْ عِضَهَةٍ أَوْ عِضَةٍ، وَالْهَاءُ الْأُولَى فِي الْجَمْعِ مِنْ تَمَامِهِ وَالْهَاءُ الثَّانِيَةُ مُضَافٌ إلَيْهَا عَائِدَةٌ لِلْمَدِينَةِ؛ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: " عِضَاهَا " بِهَاءٍ، أَيْ شَجَرُهَا، وَهُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ كَمَا قَالَهُ ح ل وَبِكَسْرِهَا كَمَا فِي ع ش. وَفِي الْمِصْبَاحِ أَنَّهُ بِوَزْنِ كِتَابٍ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي ع ش.

قَوْلُهُ: (وَلَا يَجُوزُ قَطْعُ إلَخْ) وَلَوْ لِحَلَالٍ كَمَا يَأْتِي.
قَوْلُهُ: (وَلَا قَلْعُ شَجَرِهِ) أَيْ شَجَرِ الْحَرَمِ الرَّطْبِ غَيْرِ الْمُؤْذِي بِأَنْ نَبَتَ فِيهِ أَصَالَةً وَلَوْ مُثْمِرًا فِي مِلْكِهِ، خِلَافًا لِجَمْعٍ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ، وَلَوْ بِبَعْضِ أَصْلِهِ كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ؛ أَيْ وَلَوْ كَانَ الشَّجَرُ بِبَعْضِ أَصْلِ الْحَرَمِ بِأَنْ كَانَ بَعْضُهَا فِيهِ وَبَعْضُهَا الْآخَرُ فِي الْحِلِّ سَوَاءٌ مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ وَمَا يَسْتَنْبِتُهُ النَّاسُ كَالنَّخِيلِ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ مِنْ الْحِلِّ إلَيْهِ وَإِنْ نَبَتَ فِيهِ فَلَا يَكُونُ مِنْ شَجَرِهِ. وَفَارَقَ صَيْدَ الْحِلِّ إذَا دَخَلَ الْحَرَمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فَاعْتُبِرَ مَكَانُهُ، بِخِلَافِ الشَّجَرِ فَلَهُ حُكْمُ مَنْبَتِهِ. وَخَرَجَ بِالرَّطْبِ الْجَافُّ، فَيَجُوزُ قَطْعُهُ كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَقَلْعُهُ كَمَا فِي نُكَتِ التَّنْبِيهِ لِلنَّوَوِيِّ. وَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الْحَرَمِ وَالْأَغْصَانُ فِي الْحِلِّ حَرُمَ قَطْعُهَا لَا رَمْيُ صَيْدٍ عَلَيْهَا، أَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الْحِلِّ وَالْأَغْصَانُ فِي الْحَرَمِ حَلَّ قَطْعُهَا لَا رَمْيُ صَيْدٍ عَلَيْهَا، وَلَوْ نَقَلَ شَجَرَةً مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ لَزِمَهُ رَدُّهَا أَوْ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ مِنْهُ فَلَا، فَإِنْ جَفَّتْ بِالنَّقْلِ ضَمِنَهَا وَإِنْ نَبَتَتْ فِي الْمَنْقُولِ إلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ، فَلَوْ قَلَعَهَا قَالِعٌ لَزِمَهُ أَيْ الْقَالِعَ كَمَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ الْجَزَاءُ لِبَقَاءِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ؛ قَالَ الْفُورَانِيُّ: وَلَوْ غَرَسَ فِي الْحِلِّ نَوَاةَ شَجَرَةٍ حَرَمِيَّةٍ ثَبَتَ لَهَا حُرْمَةُ الْأَصْلِ. وَقَالَ الْإِمَامُ: قَالَ أَئِمَّتُنَا: لَا خِلَاف أَنَّهُ لَوْ غَرَسَ فِي الْحَرَمِ نَوَاةً أَوْ غُصْنًا مِنْ شَجَرَةٍ حِلِّيَّةٌ لَمْ تَصِرْ حَرَمِيَّةً نَظَرًا لِلْأَصْلِ، سم مَعَ تَصَرُّفٍ.

الصفحة 477