كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 2)

الْحَيَاةِ، لَا لِمُطْلَقِ الْحَيَاةِ، وَإِذَا كَانَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ: وَلَكُمْ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ، اتَّضَحَ كَوْنُ شَرْعِ الْقِصَاصِ سَبَبًا لِلْحَيَاةِ.
وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي: فَظَاهِرٌ لِعُذُوبَةِ الْأَلْفَاظِ وَحُسْنِ التَّرْكِيبِ وَعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى تَقْدِيرِ الْحَذْفِ، لِأَنَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا قُلْنَاهُ تكرارا للفظ، والحذف إذا نفي، أو أكف، أو أوفي، هو افعل تفضيل، فلابد مِنْ تَقْدِيرِ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ أَنَفَى لِلْقَتْلِ مِنْ تَرْكِ الْقَتْلِ.
وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ: فَالْقِصَاصُ أَعَمُّ مِنَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ فِي نَفْسٍ وَفِي غَيْرِ نَفْسٍ، وَالْقَتْلُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي النَّفْسِ، فَالْآيَةُ أَعَمُّ وَأَنْفَعُ فِي تَحْصِيلِ الْحَيَاةِ.
وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ: فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مُشْعِرٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ، فَتَرَتَّبَ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وُجُودُ الْحَيَاةِ.
ثُمَّ الْآيَةُ الْمُكَرَّمَةُ فِيهَا مُقَابَلَةُ الْقِصَاصِ بِالْحَيَاةِ فَهُوَ مِنْ مُقَابَلَةِ الشَّيْءِ بِضِدِّهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَيَانِ يُسَمَّى الطِّبَاقَ، وَهُوَ شِبْهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا»
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وفي الْقِصَاصِ: مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ قَوْلُهُ: لَكُمْ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، وَتَقْدِيمُ هَذَا الْخَبَرِ مُسَوِّغٌ لِجَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ، وَتَفْسِيرُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَكُونُ لَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، وَنَبَّهَ بِالنِّدَاءِ نِدَاءِ ذَوِي الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِصَاصِ، إِذْ لَا يَعْرِفُ كُنْهَ مَحْصُولِهَا إِلَّا أولوا الْأَلْبَابِ الْقَائِلُونَ لِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَهُمُ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللَّهُ بِالْخِطَابِ، إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «2» لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ «3» لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ «4» لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى «5» لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «6» وَذَوُو الْأَلْبَابِ هُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْعَوَاقِبَ وَيَعْلَمُونَ جِهَاتِ الْخَوْفِ، إِذْ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْخَوْفُ، فَلِهَذَا خَصَّ بِهِ ذَوِي الْأَلْبَابِ.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيِ: الْقِصَاصُ، فَتَكُفُّونَ عَنِ الْقَتْلِ وَتَتَّقُونَ الْقَتْلَ حَذَرًا مِنَ الْقِصَاصِ أَوِ الِانْهِمَاكِ فِي الْقَتْلِ، أَوْ تَتَّقُونَ اللَّهَ بِاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، أَوْ تعملون عمل أهل
__________
(1) سورة النجم: 53/ 44.
(2) سورة الرعد: 13/ 19، وسورة الزمر: 39/ 9.
(3) سورة البقرة: 2/ 164، وسورة الرعد: 13/ 4 وسورة النحل: 16/ 12.
(4) سورة آل عمران: 3/ 190، وسورة الروم: 30/ 24.
(5) سورة طه: 20/ 54 و 128.
(6) سورة ق: 50/ 37.

الصفحة 155