كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 2)
خِلَافٍ. الْبَصْرِيُّونَ يُجِيزُونَ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ: عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ زِيدٍ عَمْرًا. وَالْفَرَّاءُ يَقُولُ:
لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، بَلْ إِذَا نُوِّنَ الْمَصْدَرَ لَمْ يجىء بَعْدَهُ فَاعِلٌ مَرْفُوعٌ. وَالصَّحِيحُ مَذْهَبُ الْفَرَّاءِ، وَلَيْسَ لِلْبَصْرِيِّينَ حُجَّةٌ عَلَى إِثْبَاتِ دَعْوَاهُمْ مِنَ السَّمَاعِ، بَلْ أَثْبَتُوا ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنْ وَالْفِعْلِ. فَمَنْعُ هَذَا التَّوْجِيهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ يَنْحَلُّ لِأَنْ وَالْفِعْلِ، فَيَكُونُ عَامِلًا. سَلَّمْنَا، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لِلْمَجْرُورِ بَعْدَهُ مَوْضِعًا. سَلَّمْنَا، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَطْفُ عَلَيْهِ. وَتَتَخَرَّجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى وُجُوهٍ غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ.
أَوَّلَاهَا: أَنَّهُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ لَمَّا لَمْ يُمْكِنُ الْعَطْفُ، التَّقْدِيرُ: وَتَلْعَنُهُمُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا خَرَّجَ سِيبَوَيْهِ فِي: هَذَا ضَارَبٌ زَيْدٍ وَعَمْرًا: أَنَّهُ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ: وَيَضْرِبُ عَمْرًا. الثَّانِي: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى لَعْنَةِ اللَّهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَعْنَةِ الْمَلَائِكَةِ، فَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ أُعْرِبَ الْمُضَافُ إليه بإعرابه نحو: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» . الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً حُذِفَ خَبَرُهُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، أَيْ وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ يَلْعَنُونَهُمْ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ الْعُمُومُ، فَقِيلَ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ، إِذْ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَصَارَ عَامًّا، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالنَّاسِ مَنْ يُعْتَدُّ بِلَعْنَتِهِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ خَاصَّةً، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَمُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: الْكَافِرُونَ يَلْعَنُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فَيَقُولُونَ: فِي الدُّنْيَا لَعَنَ اللَّهُ الْكَافِرَ، فَيَتَأَتَّى الْعُمُومُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، بَدَأَ تَعَالَى بِنَفْسِهِ، وَنَاهِيكَ بِذَلِكَ طَرْدًا وَإِبْعَادًا. قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ «2» ؟ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ هِيَ الَّتِي تَجُرُّ لَعْنَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: وَمَا لِي لَا ألعن من لعنه اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ؟ وَكَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ ابْنَهُ سَأَلَهُ: هَلْ يَلْعَنُ؟ وَذَكَرَ شَخْصًا مُعَيَّنًا. فَقَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، هَلْ رَأَيْتَنِي أَلْعَنُ شَيْئًا قَطُّ؟ ثُمَّ قَالَ: وَمَا لِي لا ألعن من لعنه اللَّهُ فِي كِتَابِهِ؟ قَالَ فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، وَأَيْنَ لَعْنَةُ اللَّهِ؟ قَالَ: قَالَ تَعَالَى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «3» . ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَلَائِكَةِ، لِمَا فِي النُّفُوسِ مِنْ عِظَمِ شَأْنِهِمْ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِمْ وَطَهَارَتِهِمْ. ثُمَّ ثَلَّثَ بِالنَّاسِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ، فَهُوَ شَاقٌّ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ مُفَاجَأَةَ الْمُمَاثِلِ مَنْ يَدَّعِي الْمُمَاثَلَةَ بِالْمَكْرُوهِ أَشُقُّ، بِخِلَافِ صُدُورِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْلَى.
خالِدِينَ فِيها: أَيْ فِي اللَّعْنَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَعُودُ عليها في اللفظ
__________
(1) سورة يوسف: 12/ 82.
(2) سورة المائدة: 5/ 60.
(3) سورة هود: 11/ 18.
الصفحة 73