كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 2)
دُعَائِكُمْ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا، وَالدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ، إِذِ الدَّاعِي يُشَاهِدُ نَفْسَهُ فِي مَقَامِ الْحَاجَةِ وَالذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ، وَيُشَاهِدُ رَبَّهُ بِعَيْنِ الِاسْتِغْنَاءِ وَالْإِفْضَالِ، فَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، وَافْتُتِحَتْ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهَا بِقَوْلِهِمْ: رَبَّنَا، إِيذَانًا مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ مِنْ رَبِّهِمُ الَّذِي هُوَ مُرَبِّيهِمْ، وَمُصْلِحُ أَحْوَالِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّهُمْ مَرْبُوبُونَ دَاخِلُونَ تَحْتَ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ، وَلَمْ يَأْتِ لَفْظُ: رَبَّنَا، فِي الْجُمَلِ الطَّلَبِيَّةِ أَخِيرًا لِأَنَّهَا نَتَائِجُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْجُمَلِ الَّتِي دَعَوْا فِيهَا: بِرَبِّنَا، وَجَاءَتْ مُقَابَلَةُ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنَ الثلاث السوابق جملة، فقال لَا تُؤاخِذْنا بِقَوْلِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَقَابَلَ وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً. بِقَوْلِهِ: وَاغْفِرْ لَنا وَقَابَلَ قَوْلَهَ وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ بِقَوْلِهِ: وَارْحَمْنا لِأَنَّ مِنْ آثَارِ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ الْعَفْوَ، وَمِنْ آثَارِ عَدَمِ حَمْلِ الْإِصْرِ عَلَيْهِمُ الْمَغْفِرَةُ، وَمِنْ آثَارِ عَدَمِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ الرَّحْمَةُ.
وَمَعْنَى: الْمُؤَاخَذَةُ، الْعَاقِبَةُ. وَفَاعِلُ هُنَا بمعنى الفعل المجرد، نحو: أَخَذَ، لِقَوْلِهِ:
فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «1» وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي الَّتِي جَاءَتْ لَهَا فَاعِلٌ، وَقِيلَ: جَاءَ بِلَفْظِ الْمُفَاعَلَةِ، وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْمُسِيءَ قَدْ أَمْكَنَ مِنْ نَفْسِهِ، وَطَرَقَ السَّبِيلَ إِلَيْهَا بِفِعْلِهِ، فَصَارَ مَنْ يُعَاقِبُ بذنبه كَالْمُعِينِ لِنَفْسِهِ فِي إِيذَائِهَا، وَقِيلَ إِنَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ الْمُذْنِبَ بِالْعُقُوبَةِ، وَالْمُذْنِبَ كَأَنَّهُ يَأْخُذُ رَبَّهُ بِالْمُطَالَبَةِ بِالْعَفْوِ وَالْكَرَمِ، إِذْ لَا يَجِدُ مَنْ يُخَلِّصُهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، فَلِذَلِكَ يَتَمَسَّكُ الْعَبْدُ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْهُ بِهِ، فَعَبَّرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِلَفْظِ الْمُؤَاخَذَةِ وَالنِّسْيَانِ الَّذِي هُوَ: عَدَمُ الذِّكْرِ، وَالْخَطَأِ مَوْضُوعَانِ عَنِ الْمُكَلَّفِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِمَا، فَقَالَ عَطَاءٌ: نَسِينَا: جهلنا، وأخطأنا: تَعَمَّدْنَا، وَقَالَ قُطْرُبٌ، وَالطَّبَرِيُّ: نسينا: تركنا وأخطأنا.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: قَصَدْنَا. وَقَالَ قُطْرُبٌ: أَخْطَأْنَا فِي التَّأْوِيلِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ أَخْطَأَ: سها وخطيء تَعَمَّدَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَالنَّاسُ يَلْحُونَ الْأَمِيرَ إِذَا هُمْ ... خَطَئُوا الصَّوَابَ وَلَا يُلَامُ الْمُرْشِدُ
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَ النِّسْيَانَ هُنَا وَالْأَخْطَاءَ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، وَهُمَا اللَّذَانِ لَا يُؤَاخَذُ الْمُكَلَّفُ بِهِمَا، وَتَجَوَّزَ عَنْهُمَا إِنْ صَدَرَا مِنْهُ، وَإِيَّاهُ أَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي آخِرِ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ذَكَرَ النيسان وَالْخَطَأَ وَالْمُرَادُ بِهِمَا مَا هُمَا مَنْسِيَّانِ عَنْهُ مِنَ التَّفْرِيطِ وَالْإِغْفَالِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ؟ «2» والشيطان
__________
(1) سورة العنكبوت: 29/ 40.
(2) سورة الكهف: 18/ 63.
الصفحة 763
772