كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 2)
عَلَى أَنْزَلَ، فَاتَّصَلَ بِهِ وَصَارَا جَمِيعًا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا أَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَاءٍ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ. وَيَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى أَحْيَا عَلَى مَعْنَى فَأَحْيَا بِالْمَطَرِ الْأَرْضَ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، لِأَنَّهُمْ يَنْمُونَ بِالْخِصْبِ وَيَعِيشُونَ بِالْحَيَاةِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَلَا طَائِلَ تَحْتَهُ.
وَكَيْفَمَا قَدَّرْتَ مِنْ تقديرية، لزم أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ: وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى الْمَوْصُولِ، سَوَاءٌ أَعَطَفْتَهُ عَلَى أَنْزَلَ، أَوْ عَلَى فَأَحْيَا، لِأَنَّ كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ. وَالَّذِي يَتَخَرَّجُ عَلَى الْآيَةِ، أَنَّهَا عَلَى حَذْفِ مَوْصُولٍ لِفَهْمِ الْمَعْنَى مَعْطُوفٍ عَلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَنْزَلَ، التَّقْدِيرُ: وَمَا بَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَعْظَمَ فِي الْآيَاتِ، لِأَنَّ مَا بَثَّ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ فِيهِ آيَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي أَشْكَالِهَا وَصِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا وَانْتِقَالَاتِهَا وَمَضَارِّهَا وَمَنَافِعِهَا وَعَجَائِبِهَا، وَمَا أُودِعَ فِي كُلِّ شَكْلٍ، شَكْلٍ مِنْهَا مِنَ الْأَسْرَارِ الْعَجِيبَةِ وَلَطَائِفِ الصَّنْعَةِ الْغَرِيبَةِ، وَذَلِكَ مِنِ الْفِيلِ إِلَى الذَّرَّةِ، وَمَا أَوْجَدَ تَعَالَى فِي الْبَحْرِ مِنْ عَجَائِبِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُبَايِنَةِ لِأَشْكَالِ الْبَرِّ. فَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي إِفْرَادُهُ بِالذِّكْرِ، لَا أَنَّهُ يُجْعَلَ مَنْسُوقًا فِي ضِمْنِ شَيْءٍ آخَرَ وَحَذْفُ الْمَوْصُولِ الِاسْمِيِّ، غير أن عِنْدَ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى اسْمِيَّتِهَا لِفَهْمِ الْمَعْنَى جَائِزٌ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ الْبَصْرِيُّونَ لَا يَقِيسُونَهُ، فَقَدْ قَاسَهُ غَيْرُهُمْ، قال بعض طي:
مَا الَّذِي دَأْبُهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ ... وَهَوَاهُ أَطَاعَ مُسْتَوَيَانِ
أَيْ: وَالَّذِي أَطَاعَ، وَقَالَ حَسَّانٌ:
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
أَيْ: وَمَنْ يَمْدَحُهُ، وقال آخر:
فو الله مَا نِلْتُمْ وَمَا نِيلَ مِنْكُمُ ... بِمُعْتَدِلٍ وُفِّقَ وَلَا مُتَقَارِبِ
يُرِيدُ: مَا الَّذِي نلتم وما نيل منكم، وَقَدْ حُمِلَ عَلَى حَذْفِ الْمَوْصُولِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ «1» ، أَيْ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ «2» . وَقَدْ يَتَمَشَّى التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ عَلَى ارْتِكَابِ حَذْفِ الضَّمِيرِ لِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ جَوَازِ حَذْفِهِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهِمْ، قال:
__________
(1) سورة العنكبوت: 29/ 46.
(2) سورة النساء: 4/ 136.
الصفحة 80