كتاب البحر المحيط في التفسير (اسم الجزء: 2)

فَقَطْ. وَفِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ هُنَا وَتَصْرِيفِ الْأَرْوَاحِ. وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَوْحِيدِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ. وَجَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ مَجْمُوعَةً مَعَ الرَّحْمَةِ مُفْرَدَةً مَعَ الْعَذَابِ، إِلَّا فِي يُونُسَ فِي قَوْلِهِ:
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «1» .
وَفِي الْحَدِيثِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا» .
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّ رِيحَ الْعَذَابِ شَدِيدَةٌ مُلْتَئِمَةُ الْأَجْزَاءِ كَأَنَّهَا جِسْمٌ وَاحِدٌ، وَرِيحُ الرَّحْمَةِ لينة متقطعة، فَلِذَلِكَ هِيَ رِيَاحٌ، وَهُوَ مَعْنَى يَنْشُرُ، وَأُفْرِدَتْ مَعَ الفلك، لأن ريح أجزاء السُّفُنِ إِنَّمَا هِيَ وَاحِدَةٌ مُتَّصِلَةٌ. ثُمَّ وُصِفَتْ بِالطَّيِّبِ فَزَالَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رِيحِ الْعَذَابِ، انْتَهَى. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ الْجِنْسَ، فَهُوَ كَقِرَاءَةِ الْجَمْعِ. وَالرِّيَاحُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، فَيَكُونُ تَصْرِيفِ مَصْدَرًا مُضَافًا لِلْفَاعِلِ، أَيْ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ، السَّحَابَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا لَهَا فِيهِ تَأْثِيرٌ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ فِي الْمَعْنَى مُضَافًا إِلَى الْفَاعِلِ، وَفِي اللَّفْظِ مُضَافًا إِلَى الْمَفْعُولِ، أَيْ وَتَصْرِيفِ اللَّهِ الرِّيَاحَ.
وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ، تَسْخِيرُهُ: بَعْثُهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ. وَقِيلَ: تَسْخِيرُهُ: ثُبُوتُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِلَا عَلَاقَةٍ تُمْسِكُهُ. وَوُصِفَ السَّحَابُ هُنَا بِالْمُسَخَّرِ، وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَفِيهِ لُغَتَانِ: التَّذْكِيرُ: كَهَذَا وَكَقَوْلِهِ: أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «2» ، وَالتَّأْنِيثُ عَلَى مَعْنَى تَأْنِيثِ الْجَمْعِ، فَتَارَةً يُوصَفُ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْوَاحِدَةُ الْمُؤَنَّثَةُ، وَتَارَةً يُوصَفُ بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْجَمْعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا «3» . قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: السَّحَابُ غِرْبَالُ الْمَطَرِ، وَلَوْلَا السَّحَابُ لَأَفْسَدَ الْمَطَرُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ. فَقِيلَ: السَّحَابُ يَأْخُذُ الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَقِيلَ: يَغْتَرِفُهُ مِنْ بِحَارِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِيهِ، وَلِلْفَلَاسِفَةِ فِيهِ أَقْوَالٌ. وَجُعِلَ مُسَخَّرًا بِاعْتِبَارِ إِمْسَاكِهِ الْمَاءَ، إِذِ الْمَاءُ ثَقِيلٌ، فَبَقَاؤُهُ فِي جَوِّ الْهَوَاءِ هُوَ عَلَى خِلَافِ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ بِالْمِقْدَارِ الْمَعْلُومِ الَّذِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، يَأْتِي بِهِ اللَّهُ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَيَرُدُّهُ عِنْدَ زَوَالِ الْحَاجَةِ، أَوْ سُوقُهُ بِوَاسِطَةِ تَحْرِيكِ الرِّيحِ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ.
بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ: انْتِصَابُ بَيْنَ عَلَى الظَّرْفِ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْمُسَخَّرُ، أَيْ سُخِّرَ بَيْنَ كَذَا وَكَذَا، أَوْ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَائِنًا بَيْنَ، فَيَكُونُ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَكِنِّ فِي الْمُسَخَّرِ. لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: دَخَلَتِ اللَّامُ عَلَى اسْمِ إِنَّ لِحَيْلُولَةِ الْخَبَرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، إِذْ
__________
(1) سورة يونس: 10/ 22.
(2) سورة القمر: 54/ 20.
(3) سورة الأعراف: 7/ 57.

الصفحة 82