كتاب التمهيد - ابن عبد البر - ت بشار (اسم الجزء: 2)

في ذلك قولَ اليهودِ، ولو أنْعَموا النَّظَرَ لعَلِموا أنَّ ذلك ليس من بابِ البَدَاءِ (¬١) كما زعَموا، ولكنّه من بابِ الموتِ بعدَ الحياة، والكِبَرِ بعدَ الصِّغَرِ، والغِنَى بعدَ الفقرِ، إلى أشْبَاهِ ذلك من حكمةِ الله تعالى، ولكنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يشاءُ ويهدي مَن يشاءُ، وليس هذا مَوضِعَ الكلام في هذا المعنَى؛ لئلَّا نخرُجَ عمَّا قصَدْنَاه.
وفيه أنَّ النَّهْيَ حُكْمُه إذا ورَد أن يُتَلَقَّى باستعمالِ تركِ ما نُهِي عنه والامتناعِ منه، وأنَّ النَّهيَ محمولٌ على الحَظْرِ والتَّحْريمِ والمنعِ، حتى يَصْحبَه دليلٌ من فَحْوَى القصَّةِ والخطابِ، أو دليلٌ من غير ذلك يُخْرِجُه من هذا البابِ إلى بابِ الإرشادِ والنَّدْبِ.
وفيه أنَّ الآخِرَ من أمْرِ رسولِ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناسِخٌ لما تقدَّمَ منه، إذا لَمْ يُمْكِنِ اسْتِعْمالُه، وصَحَّ تَعارُضُه، ولذلك لا خِلافَ عَلِمْتُه من العلماءِ في إجازةِ أكْلِ لحومِ الأضاحيِّ بعدَ ثلاثٍ وقبلَ ثلاثٍ، وأنَّ النَّهْيَ عن ذلك مَنْسُوخٌ على ما جاء في هذا الحديث، لا خلافَ بينَ فقهاءِ المسلمين في ذلك. وقد رَوَتْ عَمْرَةُ، عن عائشةَ بَيانَ العِلَّةِ في النَّهْيِ عن أكْلِ لُحومِ الأضاحِيِّ بعدَ ثلاثٍ، وأنَّ ذلك إنَّما كان محبَّةً في الصدقةِ من أجلِ الدَّافَّةِ التي كانت قد دَفَّتْ عليهم. يعني الجماعةَ من الفقراءِ القادمةَ عليهم.
وروَى ذلك مالكٌ (¬٢)، عن عبدِ الله بن أبي بكرٍ، عن عَمْرَةَ، عن عائشةَ. وسنذكُرُه في موضعِه من كتابِنا هذا إن شاء الله.
وأخبَرنا عبدُ الله بنُ محمدِ بن عبد المؤمن، قال: حَدَّثَنَا محمدُ بنُ بكر، قال:
---------------
(¬١) الذي هو استصواب شيءٍ عُلِم بعد أن لَمْ يُعْلَم، وذلك على الله عزّ وجلَّ غيرُ جائز، وقال الفرّاء: بدا لي بَداءٌ، أي: ظهر لي رأيٌ آخر. ينظر: النهاية لابن الأثير ١/ ١٥٩، واللسان مادة (بدو). وهو مبدأ يقول به اليهود والروافض، تعالى الله عما يقولون.
(¬٢) في الموطّأ ١/ ٦٢٣ (١٣٩٣)، وهو الحديث الخامس لعبد الله بن أبي بكر، وسيأتي تمام تخريجه مع مزيد كلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى.

الصفحة 579