كتاب المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي (اسم الجزء: 2)

109…قال ياقوت: فبكى عُمَرُ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري، في ردّ كلاب إلى المدينة فلما قدم، دخل عليه، فقال له عُمَرُ: ما بلغ من برّك بأبيك؟ فقال: كنتُ أوثره، وأكفيه أمره، وكنتُ أعتمد إذا أردتُ أن أحلبَ له لبناً إلى أغزر ناقةٍ في إبله، فأسمنْها، وأُريحها، وأتركها حتى تستقرّ ثم أغسل أخلافها حتى تبرد، ثم أحتلب له فأسقيهُ.
فبعث عُمَرُ إلى أبيه فجاءَه، فدخل عليه وهو يتهادى وقد انحنى، فقال له: كيف أنت يا أبا كلاب؟ فقال: كما ترى يا أمير المؤمنين، فقال: هل لك من حاجةٍ؟ فقال: نعم، كنتُ أشتهي أن أرى كلاباً فأشمّه شمّةً، وأضمّه ضمّةً قبل أن أموت.
فبكى عُمَرُ وقال: ستبلغ في هذا ما تحبُّ إن شاءَ اللَّهُ، ثم أمر كلاباً أن يحتلبَ لأبيه ناقةً كما كان يفعل ويبعث بلبنها إليه، ففعل، وناوله عُمَرُ الإناءَ وقال: اشرب هذا يا أبا كلاب، فأخذه، فلما أدناه من فمه قال: واللَّهِ يا أمير المؤمنين إني لأشمُّ رائحةَ يَدَيْ كلاب.
فبكى عمرُ وقال: هذا كلابٌ عندك حاضر، وقد جئناك به، فوثب إلى ابنه وضمه إليه وقبّلَهُ، فجعل عُمَرُ والحاضرون يبكون، وقالوا لكلاب: الزم أبوك. فلم يزل مقيماً عندهما .. ".
وهناك روايات أُخرى نَقَلَها ابن حجر في "الإصابة" في قصة شعر أُخرى أجمعُ أطرافها فيما يأتي: قَدمَ قادمٌ على عمر بن الخطاب في المدينة، فسأله: من أين؟ قال: من الطائف، قال: فَمَهْ، قال: رأيتُ بها شيخاً يقول:
لمن شيخان قد نَشَدا كلاباً كتابَ اللَّهِ إنْ حفظ الكتابا (1)
إذا هتفتْ حمامةُ بَطْنِ وَجٍّ على بيضاتها ذكرا كلابا (2) …
__________
(1) لمن الشيخان: أي: لمن تُرك شيخان. ونشده كتاب الله، ونشده الله: استحلفه وذكره به. وحفظ كتاب الله: أي: رعى له حرمته وأطاعه.
(2) وجّ: من الطائف، وقوله: على بيضاتها: أي إذا هتفت تعطفاً وسروراً وحناناً على بيضاتها، يذكران عندئذٍ ولدهما كلاباً.

الصفحة 109