كتاب المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي (اسم الجزء: 2)

110…
تركتَ أباك مُرعَشةً يَدَاهُ وأمَّكَ ما تسيغ لها شرابا
وإنّك و التماس الأجر بعدي كباغي الماءِ يتبعُ السرابا
أبرّاً بعد ضيعة والدية فلا وأبي كلابٍ ما أصابا
...
قالوا: فلما سمع عُمَرُ الشعر قال: أجل، وأبي كلابٍ ما أصابا ... وسأل عُمَرُ عن الشيخ، وابنه كلاب، فكتب عيه عُمَرُ فأقفله من الغزو وحلف عليه ألا يفارقه حتى يموت.
وقصة الحطيئة مع عمر بن الخطاب، فيها عِبْرةٌ تنسكِبُ لها العَبرْة .. فهذا عمر بن الخطاب، يحبس الحطيئة ليكفَّ لسانه عن إيذاء الناس، ويعرف الحطيئة، ببصيرته الشاعرة، مَكْمَن الرقة والعطف والرأفة من عمر بن الخطاب فيطرقه بأرق شعر وأعذبه، عندئذٍ نجد عمر بن الخطاب، الطود الشامخ أمام الباطل، يصبح الواحة الحانية، والسهل الممرع رأفةً ورحمة بأفراخ الحطيئة، ويبكي عُمَرُ للصورة الأدبية، ويفك إسار صاحبها، حيث يقول:
ماذا تقولُ لأفراخ بذي مَرَخٍ زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شَجَرُ (1)
ألقيت كاسبهم في قعر مُظلمةٍ فاغفر عليك سلام الله يا عُمَرُ (2)
أنت الإمأمُ الذي من بَعُد صاحبه ألقى إليك مقاليد النُّهى البَشَرُ (3) …
__________
(1) الأفراخ: صغار الطير، شبه صغار أولاده بهم. وزُغب الحواصل: عليها الزغب الناعم. لم تستحكم، ولا تقوى على الطيران. وقوله: بذي مرخ: مكان .. في نواحي فدك من صقع خيبر، وفي رواية " بذي أمر " وهو موضع يُعَدُّ في نجد، على بُعْد نحو مئة كيل من شرقي المدينة، في نواحي النُّخيل، ولا تعارض فقد يلتقيان في كونها من نواحي ديار غطفان، وربّما تنقّل الشاعر بين المكانين.
(2) الكاسب: الذي يكسب لهم الطعام. والمظلمة: اليئر التي احتفرها عُمر وجعلها سجناً.
(3) المقاليد: المفاتيح. والنهي: جمع نهية، وهي غاية كل شيء وآخره. يريد: فوضوا إليه التصرف في الأمور العظام التي لا يطيق الناس التصرف بها، وهي الخلافة.

الصفحة 110