كتاب المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي (اسم الجزء: 2)

112…
صريحاُ في ذلك بل يختفي المقصود وراء الألفاظ، وإنما يعرفه من يغوص وراء المعاني ويعرف ما للعرب من مفهومات وتقاليد ومُثُل.
وعمر بن الخطاب من أقدر الناس على فهم مراد الشعراء .. ولكنه كان مع ذلك، يؤول مراد الشاعر، ويحرفه عن مفهوم الخصم، لعله يفعل ذلك، لدرء الحدود بالشيهات، فإذا لم يرضى الخصم بتأويل عمر، عرض الأمر على المشهورين بقول الشعر، لئلا يترك أمام الشاعر الهاجي، طريقاً للهروب من مقصده، مع علم عُمر بما سيقوله الشاعر المُحَكَّم ... روى الجاحظ، قال: " كان عمر بن الخطاب ـ رحمه الله ـ أعلم الناس بالشعر ولكن كان إذا ابتُلي بالحكم بين النجاشي والعجلاني ـ ستأتي قصتهما ـ وبين الحطيئة والزِّبرقان، كره أن يتعرض للشعراء، واستشهد للفريقين رجالاً مثل حسان بن ثابت وغيره .. فإذا سمع كلامهم حكم بما يعلم، وكان الذي ظهر من حُكم ذلك الشاعر مقنعاً للفريقين .. فلما رآه مَنْ لا عِلْمَ له، يسألُ هذا وهذا، ظنَّ أنْ ذلك لجَهْلِهِ بما يعرف غيره ". [البيان والتبيين 240/ 1].
وَرَوَوْا في هذا السياق قصتين، أسوقهما على التوالي: الأولى: قصة النجاشي (1)، وتميم بن مقبل (2)، وهما شاعران، كانا يتهاجيان (3) فهجا النجاشيُّ تميم بن مقبل، فاستعدى عليه عمر رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين.
هجاني، فقال عمر: يا نجاشيُّ ما قلتَ؟ قال: يا أمير المؤمنين قلتُ ما لا أرى عليَّ فيه إثماً، وفي رواية: قلتُ ما لا أرى فيه عليه بأساً، وأنشده:…
__________
(1) النجاشي: اسمه قيس بن عمرو، ذكره ابن حجر في القسم الثالث من [الإصابة 582/ 3].
(2) تميم بن مقبل: مخضرم، أدرك الإسلام فأسلم، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ابن حجر في القسم الثالث من [الإصابة 187/ 1].
(3) القصة في [الإصابة 582/ 3 و 187/ 1] و [مجالس ثعلب 363/ 2] و [خزانة الأدب 232/ 1] و [زهر الآدب 20/ 1].

الصفحة 112