كتاب المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي (اسم الجزء: 2)

263…
هذا وقد بينت في فَصْلٍ سلبق فَسَاد الزَّعْم بأن الكتابة في العصر الجاهلي والزمن النبوي كانت قليلة بالقَدْر الذي ذكروه، وأعود إلى الموضوع مرّو أُخرى بما يناسب المقام، فأقول:
(أ) قوله: " لمكان العرب من البداوة والتوحش " باطل، لأن البيئة العربية التي نزل فيها القرآن، لم تكن باديةً، ولا متوحّشة، فقد نزل القرآن في مكة والمدينة وجلُّ الصحابة الذين لازموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاث عشرة سنة في مكة وعشر سنوات في المدينة، كانوا من أهل هاتين المدينتين، ثم انضم إليهم أهل الطائف، وطوائف من أهل جنوب الجزيرة العربية، من أهل اليمن، وطوائف مما كان يسمّى بالبحرين (الحساء، والقطيف، وعُمان، وكان فيهم عدة من لخم الشام ـ رهط تميم الداري).
ومكةُ: سماها القرآن " أم القُرى " وقالوا: سميت أُم القُرى، لأنها أقدم القرى التي في جزيرة العرب وأعظمها خطراً، إما لاجتماع أهل تلك القرى فيها كلَّ سنة أو لانكفائهم إليها وتعويلهم على الاعتصام بها، لما يرجونه من رحمة الله تعالى. [انظر: معجم البلدان ـ أم القرى].
وقصة عمران مكة لا تحتاج إلى تأويل، فقد أخبر القرآن أنها عمرت بالناس منذ أسكن فيها إبراهيم الخليل من ذريته.
ولا نعرف مدينة في جزيرة العرب، كانت، وبقيت عامرةً منذ ألفي سنة قبل الميلاد، إلا مكة. وكانت مهد نبوّة إسماعيل عليه السلام، والنبوة يكون معاها العلم والتعليم والكتابة لأن الكتابة من نعم الله التي مَنَّ الله بها على البشر .. وكانت منذ سكنتها ذرية إبراهيم مهوى أفئدة الناس .. وكان عَمَلُ أهل مكة التجارة، وقد أخبر الله في كتابه عن إيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، واحدة إلى الشام، والأخرى إلى اليمن .. فكيف يوصف أهل مكة بالبداوة والتوحش، وهو مستقرون في مدينتهم منذ آلاف السنين، وتهوي إليهم أفئدة الناس من كل البقاع، وهم مستقرون ويتصلون بالناس في حواضرهم في الشام واليمن؟ وهل كان الصحابة المهاجرين إلا من أهل مكة الذين ورثوا التحضير…

الصفحة 263