كتاب المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي (اسم الجزء: 2)

274…
ذلك عُسْرة من الماء وفي الظهر، وفي النفقة، فسميت غزوة العُسرة، ونستفيد من قصة غزوة تبوك أو العسرة، ما يلي: أولاً: كانت غزوة العُسْرة في شهر رجب سنة تسع من الهجرة، ولم يكن المسلمون في هذه السنة أسوأ حالاً ـ من الناحية الاقتصادية ـ من السنوات السابقة، بل ربما كان المسلمون في سنة تسع في أحسن أحوالهم الاقتصادية، إذا قيست بالسنوات السابقة، لأنَّ أكثر أقاليم الجزيرة قد دانت بالإسلام، وأصبحت تؤدي الزكاة، وكان يفيض منها شيء عن حاجة أهل الإقليم، فتصل إلى المدينة.
وقد كانت الغزوات السابقة في زمن كان المسلمون فيه أشدّ عسراً، ولم يطلب رسول الله من المسلمين المساعدة في تجهيز الجيش، كما طلبه في غزوة تبوك.
وربما اجتمعت أسبابٌ أُخرى ـ غير شدة الحرّ ـ لجعل الغزوة، في وقت عُسْرةٍ.
وقد ظهرت الأسباب في رواية كعب بن مالك التي حكى فيها قصة تخلّفه عن الغزوة، حيث قال: " حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم: في حرّ شديد.
واستقبل سفراً بعيداً، ومفازاً، وعدوّاً كثيراً والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كثيرٌ " ... فالحرُّ الشديد إذن، أحدُ الأسباب، وكون الحرّ الشديد، ساعة عُسْرة فلأنَّ فيه اختباراً لقوة الإيمان، ولأنه يجعل الخروج إلى الجهاد عسيراً على ضعاف الإيمان.
واتباع المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرّ الشديد دليل على تفضيلهم نعيم الآخرة وبردها على نعيم الدنيا وبردها اللذين يلقاهما المتخلف عن الغزوة في وقت الحرب، ومما يدلُّ على وجود الصراع في نفوس المسلمين بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة قول كعب " وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال ".
وقوله: واستقبل سفراً يعيداً أو مفازاً:…

الصفحة 274