كتاب المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي (اسم الجزء: 2)

276…
ولعلها أيضاً كانت أكبر قوة تحتضن عدداً كبيراً من القبائل العربية المنتصرة وغير المنتصرة، وتفرض حمايتها عليها، وتتخذها درعاً لمنع الزحف العربي من قلب الجزيرة .. فسورية، والأردن وفلسطين ولبنان، وشمال المملكة السعودية، كلها كانت تحت سيطرة القبائل العربية التي تدين بالولاء للرومان، أو تخشى هيبتها وكان الرومان، يعلمون بما يجري في قلب الجزيرة العربية، ويراقبونه، وما كانوا يظنون أن أمْر العرب يستقرُّ إلى وحدة تجمعهم ثم تزحف نحو الديار التي يسيطر عليها الرومان، فقد كانت أذنابهم تقطع على كل اتصال بين جُنْدِ محمد ص، والعرب في صقع بلاد الشام، حتى أن شرحبيل بن عمر الغساني ـ عامل قيصر على البلقاء ـ قتل الحارث بن عمير الأزدي رسول محمد ص إلى عظيم بصرى بالشام، وكان قتل الرسول سبباً في تجهيز جيش مؤتة ..
ومعركة مؤتة، وإنْ لم تحقق نصراً عسكرياً، لكنها كانت كبيرة الأثر في الناحية الإعلامية. لأنها ألقت الهرب كلها في الدهشة والحيرة.
فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن معنى جلادها، هو القضاء على النفس، وطلب الحتف بالظلف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير ـ ثلاثة آلاف مقاتل ـ مع ذلك الجيش الضخم ـ مائتي ألف مقاتل ـ ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر، كان ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، كما أكّد أنهم مؤيدون ومنصورون من عندالله، وأن صاحبهم رسولُ الله حقاً، ولذلك نرى القبائل اللدود التي كانت لا تزال تثور على المسلمين، جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سليم، وأشجع وغطفان وذبيان وفزارة وغيرها ..
ثالثاً: فلما كان فتح مكة، وأقبل العرب على دين الله أفواجاً، غلى مرجل غضب الرومان والقبائل العربية التي كانت تحت سيطرتها في بلاد الشام، وأخذوا يستعدون لغزو ديار الدعوة الإسلامية.
ويظهر أنهم كانوا يعدون جيشاً كبيراً…

الصفحة 276