كتاب المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي (اسم الجزء: 2)
303…
ولعلَّ القول المشهور: " اختلاف الرأي لا يُفسد للودّ قضيّة " أكثر ما ينطبق على حال الصحابة في هذه الفتنة، فمع اختلافهم في الرأي، لم يدخل قلب أحد الضَّغن على أخيه ...
فسعد بن أبي وقاص اعتزل الفتنة، وجاءَه ابن أخيه هاشم بن عتبة فقال: هاهنا مائة ألف سيفٍ يرونك أحقَّ بهذا الأمر فقال: أريد منها سيفاً واحداً، وإذا ضربتُ به المؤمن لم يصنع شيئاً وإذا ضربت به الكافر قطع. [الإصابة 33/ 2].
وفي رواية أنه قال: أعطني سيفاً يقول: هذا مؤمن وهذا كافر.
وقوله هذا، يوحي بأنه يكنُّ الودَّ والحبَّ للطائفتين وأن أحداً من الفريقين لا يستحق القتل، لأنهما مؤمنان مسلمان.
وأسامة بن زيد، يعتزل، ولكنه قال للإمام علي: " لو كنتَ في شدْق الأسد لأحببتُ أن أكون معك فيه، ولكن هذا أمرٌ لم أره " يعني أنه لا يرى قتال المسلم [الفتح 68/ 13].
وإليك هذه القصّة التي رواها البخاري في الصحيح عن أبي وائل قال: دخل أبو موسى الأشعري، وأبو مسعود (عقبة بن عمرو الأنصاري) على عمّار حين بعثه عليٌّ إلى أهل الكوفة يستنفرهم، فقالا: ما رأيناك أتيت أمراً، أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت.
فقال عمار: ما رأيتُ منكما منذ أسلمتما أمراً أكْره عندي من إبطائكما في هذا الأمر.
وفي رواية أخرى عن شفيق بن سلمة: " فقال أبو مسعود ـ وكان موسراً ـ يا غلام هات حلتين، فأعطى إحداهما أبا موسى، والأخرى عمّاراً، وقال: روحا فيه إلى الجمعة " [كتاب الفتنة باب 18].
فأنت ترى أبا مسعودٍ، وعماراً كانا مختلفين، وكلاهما يرى الآخر مخطئاً ومع ذلك فأنت ترى أبا مسعودٍ يكسو عماراً حُلَّةً ليشهد بها الجمعة لأنه كان في ثياب السفر وهيئة الحرب، فكره أبو مسعود أن يشهد الجمعة في تلك الثياب .. وهذا تصرُّفٌ يدل على غاية الودّ ... …