كتاب المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي (اسم الجزء: 2)

40…
.. ومع توفّر المال في أيدي الناس أيام عمر، من العطاء، والمغانم، إلا أنَّ عمر بن الخطاب كان يريد أن يكون طلب الرزق تربية ً عملية مستمرة كما كان الأمر في العهد النبويّ حيث كان كبار الصحابة ـ مع انشغالهم بصحبة رسول الله ـ يعملون في التجارة والزراعة .. فليس الهدف من الحياة العملية الحصول على لقمة العيش من أيّ طريق كانت، وإنما الهدف إعمار الكون، وانتقال الخبرة العملية إلى الأجيال بحيث لا يكون إنسانٌ عاطلاً عن العمل، ولأن العمل يرفع قيمة الإنسان، واعتماد الناس على الخدم في كسب القوت يُوجد جيلاً من الناس لا خبرة لهم فقدوا القدرة على الإنتاج .. وسنةُ الله في الأرض، ألا تدوم نعمة، ولا يبقى حال رخاء، فالتبدل حاصل مع الأيام، فإذا انتقل الحال من يُسْرٍ إلى عُسْر صار أمر القاعدين عن العمل إلى فساد، وأصبحوا عيالاً للمجتمع ينوء بهم كاهلُه.
وكان العربُ في الجاهلية يأنفون من الأكل من مالٍ لم يكسبوه، ولذلك عدَّ الزبرقان بن بدر من أقذع الهجاء قول الحطيئة فيه:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
"والمطاعم والكاسي، فاعل، بمعنى مفعول" وعنده سأل عمر بن الخطاب حسان بن ثابت: هل هجا الحطيئة الزبرقان؟ قال: لم يهجه ولكن سلح عليه.
وعندما تخلّف قوم من القرشيين في مكة، ولم يخرج في النفير لاستنقاذ عير قريش وتجارتها، استهزئوا بهم فقالوا: " لا في العير ولا في النفير " وصار مثلاً يضرب للرجل لا يصلح لمهمًّ ويُحتقر لقلة نفعه.
ولهذا حثَّ عمر بن الخطَّاب أهل المدينة على العمل وكره لهم القعود، وأنكر عليهم ألا يوجد في السوق إلا قلة من العرب، وحذرهم من مغبة ذلك.
فقد روى ابن شبة في [تاريخ المدينة 746/ 2] عن السائب بن يزيد قال: " قال لعمر بن الخطاب " مَنْ تجّارُكم؟ قالوا: موالينا وعبيدنا، قال: يوشك أن تحتاجوا إلى ما في أيديهم فيمنعونكم،…

الصفحة 40