كتاب المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي (اسم الجزء: 2)

43…المدن فتضيع عربيتهم، ولهذا عمل على إرجاعهم إلى باديتهم بعد أن أحيوا عام الرمادة، فبقيت العربية فصيحة في البادية العربية حتى القرن الرابع، فذهب المتنبي إلى البادية وأخذ الفصاحة منها وكان علماءُ اللغة يرحلون إلى البادية لتدوين اللغة من أفواه العرب (انظر ترجمة الخليل بن أحمد، والأصمعي، والكسائي).
والمثال الذي نذكره لدعوة عُمر إلى إحياء الأرض الموات في نواحي المدينة النبوية قصة وادي العقيق: وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أقطع وادي العقيق في المدينة، لبلال بن الحارث المزني، وشرط عليه أن يحييه، لأن نصَّ الإقطاع يقول: " هذا ما أعطى محمد رسول الله بلال بن الحارث، أعطاه من العقيق ما أصلح فيه معتملاً " [تاريخ المدينة لابن شبة 150/ 1].
وكان زمن هذا الإقطاع في أواخر العهد النبوي، بعد فتح مكة.
وعندما تولى عُمرُ الخلافةَ، دعا بلال بن الحارث، وقال له: " قد علمتَ أن رسول الله لم يكن يمنعُ شيئاً سُئله، وإنك سألتَه أن يعطيك العقيق، فأعطاكه؛ فالناسُ يومئذٍ قليل لا حاجة لهم، وقد كثر أهل الإسلام، واحتاجوا إليه، فانظر ما ظننتَ أنك تقوى عليه فأمسكه، واردد إلينا الباقي نُقطِعُه ".
وكان عُمَرُ صرّاً على طلبه، لما يرى من حاجة المسلمين إلى أرض العقيق، ولذلك يروي ابن شبّة أن بلالاً أبى ردَّ ما أقطعه رسول الله، فقال عمرُ: والله لتفعلَنَّ. بصيغة التوكيد، فأخذ منه ما عجز عن عمارته، فقسّمه بين المسلمين.
وصار عملُ عمر في وادي العقيق سنّةً بنى عليها الفقهاءُ أحكام الإقطاع: قال ابن قُدامة، في [المغني 579/ 5]: "إنَّ مَنْ أقطعه الإمام شيئاً من الموات، لم يملكه بذلك، ولكن يصير أحقَّ به، كالمتحجّر الشارع في الإحياء بدليل ما ذكرنا من حديث بلال بن الحارث، حيث استرجع عمرُ منه ما عجز عن إحيائه…

الصفحة 43