كتاب المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي (اسم الجزء: 2)

46…
(ب) ومما يدلُّ على أنَّ سياسة عمر أثمرت بجعل المدينة دار الفقه والعلم ومنزل أهل الرأي والمشوره .. مارواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كنت أُقرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف , فبينما أنا في منزله بمنى , وهو عند عمر في آخر حجّةٍ حجّها , إذْ رجع إليّ عبد الرحمن فقال: لو رأيتَ رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان، يقول: لو قد مات عُمَرُ، لقد بايعتُ فلاناً فوالله ما كانت بيعةُ أبي بكر إلا فلتةً فتمّت، فغضب عمرُ، ثم قال: إني إن شاء اللَّهُ لقائم العيشةَ في الناس، فمُحذرهم هؤلاء الذين يريدون أنْ يغصبوهم أمورهم.
قال عبد الرحمن: فقلتُ: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإنَّ الموسم يجمعُ رَعَاعَ الناس وغوغاءَهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالةً يطيّرها عنك كلُّ مطيّر، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسُّنَّة، فتخلص بأهل الفقه وأشرف الناس، فتقول ما قلت متمكناً، فيعي أهلُ العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها .. فقال عُمَرُ: أما واللَّهِ ـ إنْ شاء الله ـ لأقومنَّ بذلك أول مقام أقوامه بالمدينة .. الحديث [البخاري/ كتاب الحدود ـ باب رجم الحبلى].
قال ابن حجر: واستُدلَّ بهذا الحديث على أنَّ أهل المدينة مخصصون بالعلم والفهم، لاتفاق عبد الرحمن بن عوف وعمر على ذلك.
قال: وهو صحيح في حقّ أهل ذلك العصر ـ عصر عمر ـ ويلتحق بهم مَنْ ضاهاهم في ذلك ولا يلزم من ذلك أن يستمر ذلك في كل عصر، ولا في كلِّ فرد [الفتح 155/ 12] قلتُ: ولكن ذلك كان في زمن عمر، وأثّر ذلك في العصور التالية، لأن تلاميذ مدرسة عمر كانوا في المدينة، ونشروا علمهم في المدينة .. فنشأ تلاميذ صاروا أعلاماً لقربهم من المنهل، ولبقائهم في البيئة المدنية، فهي إذن مدرسة عالية، بعد مدرسة عالية ثم أتى عصر التابعين فنشأت مدرسة عالية بالقياس إلى زمنها، ثم أتى عصر تابعي التابعين فبرزت المدينة بتلاميذ كبار…

الصفحة 46