كتاب المدينة النبوية في فجر الإسلام والعصر الراشدي (اسم الجزء: 2)

54…
أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذْ هما في الغار، إذْ يقول لصاحبه: لا تحزنْ إنَّ الله معنا، فأنزل اللهُ سكينته عليه، وأيده بجنودٍ لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السُّفْلى، وكلمةُ الله هي العليا، والله عزيز حكيم) [التوبة، آية 40] (1) ..
وأن ابن الخطاب لنبيلٌ، مُلْهَمُ الفؤاد ـ سواءٌ أكان هو المقترح، أم مجيب الاقتراح ـ حين نظر إلى غار " ثور " ولم ينظر في التأريخ إلى نصر المدينة ولا إلى نصر بَدْر، ولا إلى نصر أحدٍ، ولا إلى نصر فارس، ونظر إلى تلك الجنود التي لم تروها .. يوم ميلاد النبي ّ لم يكن يوم الإسلام الأول، لأن ميلاد محمد ص لم يكن معجزة الإسلام ـ كما كان ميلاد عيسى معجزة المسيحيّة، ولأن محمداً بَشَرٌ، مثلنا في مولده، ولكنه سيّد الرسل يوم دعا ويوم نجا بالدعوة إلى حيث تنجو وحيث تسود، وحيث يكون امتحانها الأول في قلب صاحبها وقلب صاحبه الصدِّيق، وهما اثنان في الغار.
كذلك تؤرخ العقائد والأديان: بالشدَّة تأريخُها، وليس بالغنائم والفتوح وإنها لشيء في القلوب، فلنعرفها إذنْ حين لا تكون إلا في القلوب، وحين يكون كلُّ شيء ظاهراً كأنه ينكرها ويتفي وجودها، وهي يومئذ ٍ من الوجود في الصميم".

__________
(1) ساق الكاتب الآية سياق اقتباس، فبدأ بقوله تعالى: (إذ أَخرجه .. ) وأول الآية (إلا تنصروه، فقد نصره الله إذْ أخرجه .. ) والآية نزلت في عتاب مَنْ تخلّف عن رسول الله في غزوة تبوك سنة تسع .. ويقول: إذا لم تنصروه، فإنَّ الله نصره في السابق، وذكر يوم الهجرة من مواطن نصر اللهِ نبيه.
وقوله: وأيده بجنود لم تروها ... يؤخذ من بعض التفاسير، أن الجنود المذكورة هنا، كانت إذْ كان النبيّ في الغار، يوم الهجرة ... وقال الزمخشري في الكشاف: الجنود: الملائكة، يوم بدر، والأحزاب وحنين. وعلى هذا فإن السكينة التي أنزلها الههُ على رسوله كانت يوم الهجرة، وأن الجنود، كانت في المعارك التالية. وفي تفسير الجلالين: أن الجنود يوم الهجرة وفي المعارك التالية. ولا يمنع السياق من الجمع بينهما، فجنود الله وسكينته، يلازمان رسول الله في كلّ موطن. والله أعلم.

الصفحة 54