كتاب درر الحكام شرح غرر الأحكام (اسم الجزء: 2)

وَقَالَ قَاضِي خَانْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ إذَا ارْتَشَى لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِيمَا ارْتَشَى

(وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا بِهِ فِي عَفَافِهِ) وَهُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْحَرَامِ (وَعَقْلِهِ وَصَلَاحِهِ وَفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ بِالسُّنَّةِ) وَهِيَ مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَالْآثَارِ) وَهِيَ مَا يُرْوَى عَنْ الْأَصْحَابِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - (وَوُجُوهِ الْفِقْهِ) أَيْ مَسَائِلَ مُتَعَلِّقَةٍ بِأَحْكَامِ الْوَقَائِعِ (وَالِاجْتِهَادُ شَرْطُ الْأَوَّلِيَّةِ) لَا الْجَوَازُ (كَذَا الْمُفْتِي) يَعْنِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَيْضًا الِاجْتِهَادُ

(وَلَا يَطْلُبُ الْقَضَاءَ) أَيْ بِالْقَلْبِ (وَلَا يَسْأَلُ) أَيْ بِاللِّسَانِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وُكِّلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ أَيْ يُلْهِمُهُ الرُّشْدَ وَيُوَفِّقُهُ لِلصَّوَابِ» (وَيَخْتَارُ الْأَقْدَرَ وَالْأَوْلَى) أَيْ يَنْبَغِي لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَخْتَارَ لِلْقَضَاءِ مَنْ هُوَ أَقْدَرُ وَأَوْلَى بِهِ (وَلَا يَكُونُ فَظًّا غَلِيظًا جَبَّارًا عَنِيدًا) لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقَضَاءِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ قَلَّدَ غَيْرَهُ عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ وَخَانَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ» وَعَمَلُ الْقَضَاءِ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ وَأَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ

(وَيُكْرَهُ التَّقَلُّدُ) أَيْ أَخْذُ الْقَضَاءِ (لِمَنْ خَافَ الْحَيْفَ) أَيْ الظُّلْمَ وَالْجَوْرَ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ أَمِنَ مِنْهُ لَا يُكْرَهُ وَقِيلَ يُكْرَهُ بِلَا إكْرَاهٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» وَقِيلَ قَدْ ازْدَرَاهُ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ هَكَذَا ثُمَّ دَعَا فِي مَجْلِسِهِ بِمَنْ يُسَوِّي شَعْرَهُ فَجَعَلَ الْحَلَّاقَ يَحْلِقُ بَعْضَ أَشْعَارِ ذَقَنِهِ فَعَطَسَ فَأَصَابَ الْمُوسَى حَلْقَهُ وَأَلْقَى رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَذَا فِي الْكَافِي وَيَجُوزُ تَقَلُّدُهُ مِنْ الْجَائِرِ كَمَا يَجُوزُ مِنْ الْعَادِلِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - تَقَلَّدُوا الْقَضَاءَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ الْخِلَافَ لِعَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ مَعَ أَنَّ الْحَقَّ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ وَتَقَلَّدُوا مِنْ يَزِيدَ مَعَ فِسْقِهِ وَجَوْرِهِ وَالتَّابِعُونَ تَقَلَّدُوا مِنْ الْحَجَّاجِ مَعَ كَوْنِهِ أَظْلَمَ زَمَانِهِ (وَ) مِنْ (أَهْلِ الْبَغْيِ) قَالَ فِي الْعِمَادِيَّةِ التَّقَلُّدُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ يَصِحُّ وَبِمُجَرَّدِ اسْتِيلَاءِ الْبَاغِي لَا يَنْعَزِلُ قُضَاةُ الْعَدْلِ وَيَصِحُّ عَزْلُ الْبَاغِي لَهُمْ حَتَّى لَوْ انْهَزَمَ الْبَاغِي بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَنْفُذُ قَضَايَاهُمْ بَعْدَهُ مَا لَمْ يُقَلِّدْهُمْ السُّلْطَانُ الْعَدْلُ

(فَإِنْ تَقَلَّدَ طَلَبَ دِيوَانَ قَاضٍ قَبْلَهُ) وَهِيَ الْخَرَائِطُ الَّتِي فِيهَا نُسَخُ السِّجِلَّاتِ وَالصُّكُوكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَكْتُبُ نُسْخَتَيْنِ أَحَدُهُمَا تَكُونُ فِي يَدِ الْخَصْمِ وَالْأُخْرَى فِي دِيوَانِ الْقَاضِي إذْ رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي وَمَا فِي يَدِ الْخَصْمِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ ثُمَّ الْوَرَقُ الَّذِي كَتَبَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ هَذِهِ النُّسَخَ إنْ كَانَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ فِي يَدِهِ لِعَمَلِهِ وَقَدْ صَارَ الْعَمَلُ لِغَيْرِهِ وَكَذَا إذَا كَانَ مِنْ مَالِهِ أَوْ مَالِ الْخُصُومِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ مَا اتَّخَذَهُ لِلتَّمَوُّلِ بَلْ لِلتَّدَيُّنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ وَقَالَ قَاضِي خَانْ) حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْبُرْهَانِ ثُمَّ قَالَ وَقِيلَ يَنْفُذُ فِيمَا ارْتَشَى فَكَأَنَّ الْقَاضِيَ فَخْرَ الدِّينِ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا الْقِيلَ وَاعْتَبَرَ قَوْلَ الْأَكْثَرِ فَحَكَى الْإِجْمَاعَ فِي عَدَمِ نُفُوذِهِ فِيهِ وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ قَضَايَاهُ فِيمَا ارْتَشَى وَفِيمَا لَمْ يَرْتَشِ بَاطِلَةٌ وَلَوْ ارْتَشَى وَلَدُ الْقَاضِي أَوْ كَاتِبُهُ أَوْ بَعْضُ أَعْوَانِهِ فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ كَانَ كَارْتِشَائِهِ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ مَرْدُودًا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ نَفَذَ قَضَاؤُهُ وَكَانَ عَلَى الْمُرْتَشِي رَدُّ مَا قَبَضَ. اهـ.

(قَوْلُهُ وَفَهْمِهِ) يَعْنِي يَنْبَغِي أَنْ يُوثَقَ بِهِ فِي فَهْمِهِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ فَيُجْعَلُ سَمْعُهُ وَفَهْمُهُ وَقَلْبُهُ إلَى كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْهَمْ كَلَامَهُمَا يُضَيِّعُ الْحَقَّ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ قَلِقًا وَلَا ضَجِرًا وَلَا غَضْبَانَ وَلَا جَائِعًا وَلَا عَطْشَانَ وَلَا مُمْتَلِئًا وَلَا مَاشِيًا وَقْتَ الْقَضَاءِ كَمَا فِي الْبَدَائِعِ

(قَوْلُهُ وَلَا يَطْلُبُ الْقَضَاءَ) فَإِنْ طَلَبَ لَا يُوَلَّى (قَوْلُهُ وَلَا يَكُونُ فَظًّا سَيِّئَ الْخُلُقِ غَلِيظًا قَاسِيًا جَبَّارًا عَنِيدًا) يَعْنِي فَيَكُونُ شَدِيدًا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ فَمَنْ كَانَ أَعْرَفَ وَأَقْدَرَ وَأَوْجَهَ وَأَهْيَبَ وَأَصْبَرَ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ النَّاسِ كَانَ أَوْلَى

(قَوْلُهُ وَإِنْ أُمِنَ مِنْهُ لَا يُكْرَهُ) قَالَ فِي الْبَدَائِعِ إذَا عُرِضَ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ إنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ لَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ بَلْ هُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ الْقَبُولِ وَالتَّرْكِ ثُمَّ إذَا جَازَ لَهُ التَّرْكُ وَالْقَبُولُ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَصْلُحْ لَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِ اهـ.
(قَوْلُهُ وَقِيلَ يُكْرَهُ بِلَا إكْرَاهٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. . . إلَخْ) احْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِصُنْعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَصُنْعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالصَّالِحِينَ لِأَنَّ لَنَا بِهِمْ قُدْوَةً وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ إذَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ عِبَادَةً خَالِصَةً بَلْ هُوَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً» وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَاضِي الْجَاهِلِ أَوْ الْعَالِمِ الْفَاسِقِ أَوْ الطَّالِبِ الَّذِي لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ الرِّشْوَةَ فَيَخَافُ أَنْ يَمِيلَ إلَيْهَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ اهـ.
(قَوْلُهُ وَيَجُوزُ تَقَلُّدُهُ مِنْ الْجَائِرِ) إنَّمَا يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْهُ إذَا أَمْكَنَهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِحَقٍّ أَمَّا إذَا لَمْ يُمَكِّنْهُ فَلَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّقَلُّدِ مِنْهُ

(قَوْلُهُ فَإِنْ تَقَلَّدَ طَلَبَ دِيوَانَ قَاضٍ قَبْلَهُ) قَالَ الزَّيْلَعِيُّ وَيَبْعَثُ عَدْلَيْنِ مِنْ أُمَنَائِهِ أَوْ عَدْلًا وَاحِدًا وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ لِيَقْبِضَا دِيوَانَ الْمَعْزُولِ بِحَضْرَتِهِ أَوْ بِحَضْرَةِ أَمِينِهِ وَيَسْأَلَانِ الْمَعْزُولَ عَنْهَا شَيْئًا فَشَيْئًا لِكَشْفِ الْإِشْكَالِ عَنْهُمَا وَيَضَعَانِ كُلَّ شَيْءٍ فِي خَرِيطَةٍ بِمُفْرَدِهِ. اهـ.

الصفحة 405