كتاب درر الحكام شرح غرر الأحكام (اسم الجزء: 2)

(وَلَوْلَاهُمَا) أَيْ لَوْلَا غِنَاهُمْ (وَلَا اسْتِغْنَاؤُهُمْ بِحِصَّتِهِمْ فَالتَّرْكُ أَوْلَى) لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْوَصِيَّةِ صَدَقَةٌ عَلَى الْقَرِيبِ بِقَدْرِ الْوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ تَصَدُّقٌ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فَالْأُولَى أَوْلَى لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» (كَتَرْكِهَا مَعَ أَحَدِهِمَا) أَيْ إنْ لَمْ تَكُنْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ لَا يَسْتَغْنُونَ بِحِصَّتِهِمْ مِنْ التَّرِكَةِ فَتَرْكُ الْوَصِيَّةِ أَوْلَى.

(وَوَجَبَتْ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحَجِّ، وَالزَّكَاةِ) لِأَنَّهُ لَمَّا قَصَّرَ فِيهِ فِي حَيَاتِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّدَارُكُ بَعْدَ مَمَاتِهِ تَخْلِيَةً لِذِمَّتِهِ.

(وَتُؤَخَّرُ) أَيْ الْوَصِيَّةُ (عَنْ الدَّيْنِ) لِأَنَّهُ أَهَمُّ الْحَاجَتَيْنِ فَإِنَّهُ فَرْضٌ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ إلَّا أَنْ يُبْرِئَهُ الْغُرَمَاءُ فَحِينَئِذٍ تَصِحُّ لِزَوَالِ الْمَانِعِ.

(وَصَحَّتْ) أَيْ الْوَصِيَّةُ (بِالْكُلِّ) أَيْ بِكُلِّ مَالِهِ (عِنْدَ عَدَمِ وَارِثِهِ) لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الصِّحَّةِ تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَارِثِ فَإِذَا انْتَفَى تَصِحُّ.

(وَ) صَحَّتْ (لِمَمْلُوكِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ) فِي الْخُلَاصَةِ الْوَصِيَّةُ لِلْعَبْدِ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لَا تَصِحُّ أَمَّا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لَهُ مُطْلَقًا تَصِحُّ وَتَكُونُ وَصِيَّةً لِلْعِتْقِ فَإِنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَتَقَ كُلُّهُ بِغَيْرِ سِعَايَةٍ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ عَتَقَ وَسَعَى فِي بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ الْمُرْسَلَةِ قَالَ الْإِمَامُ النَّسَفِيُّ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ كَالْوَصِيَّةِ بِالْعَيْنِ.
وَقَالَ فِي الْمُنْيَةِ: لَوْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ الْقِنِّ أَوْ لِأَمَتِهِ الْقِنَّةِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْخُلَاصَةِ فَأَمَّا أَنْ يُقَيَّدَ هَذَا بِمَا سِوَى الْعَيْنِ أَوْ يُطْلَقَ وَيُحْمَلَ عَلَى غَيْرِ الْأَصَحِّ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ لَوْ أَوْصَى لِمُكَاتَبِ نَفْسِهِ أَوْ لِأُمِّ وَلَدِ نَفْسِهِ أَوْ لِمُدَبَّرِ نَفْسِهِ جَازَ الْكُلُّ اسْتِحْسَانًا وَلَوْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ الْقِنِّ أَوْ لِأَمَتِهِ الْقِنَّةِ ثُمَّ مَاتَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ فِي كُلِّهِمْ إلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْقِنِّ يُعْتَقُ ثُلُثُهُ مَجَّانًا وَعَلَيْهِ ثُلُثَا قِيمَتِهِ وَلَهُ ثُلُثُ مَالِهِ مِنْ سَائِرِ التَّرِكَةِ فَيَتَقَاصَّانِ وَيُتَرَادَّانِ الْفَضْلَ وَعِنْدَ صَاحِبَيْهِ يُعْتَقُ الْعَبْدُ وَتُصْرَفُ الْوَصِيَّةُ أَوَّلًا إلَى الْعِتْقِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ الثُّلُثِ شَيْءٌ كَانَ الْفَضْلُ لِلْعَبْدِ.

(وَصَحَّتْ لِلْحَمْلِ) بِأَنْ يَقُولَ أَوْصَيْت لِحَمْلِ فُلَانَةَ كَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ» . . . إلَخْ) لَعَلَّهُ لَيْسَ لَفْظُ الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا أَشَارَ إلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ دَلِيلًا عَقْلِيًّا وَلِذَا قَالَ فِي الِاخْتِيَارِ: وَإِنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ لَا يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَتَرْكُهَا أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ الصِّلَةِ، وَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» .
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا صَدَقَةَ وَذُو رَحِمٍ مُحْتَاجٌ» وَهُوَ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» لِأَنَّهُ فَقِيرٌ فَتَكُونُ صَدَقَةً، وَقَرِيبٌ فَتَكُونُ صِلَةً وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِمِيرَاثِهِمْ فَقِيلَ الْوَصِيَّةُ أَوْلَى وَقِيلَ يُخَيَّرُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ صَدَقَةٌ أَوْ مَبَرَّةٌ وَتَرْكُهَا صِلَةٌ، وَالْكُلُّ خَيْرٌ. اهـ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْلَاهُمَا أَيْ لَوْلَا غِنَاهُمْ وَلَا اسْتِغْنَاؤُهُمْ بِحِصَّتِهِمْ) أَيْ كَائِنٌ بِأَنْ كَانُوا فُقَرَاءَ وَلَا يَسْتَغْنُونَ بِحِصَّتِهِمْ فَالتَّرْكُ أَوْلَى.
(قَوْلُهُ: كَتَرْكِهَا مَعَ أَحَدِهِمَا) قَالَ بَعْضُ الْأَفَاضِلِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهَا أَوْلَى مَعَ وُجُودِ الْغِنَى فَقَطْ وَكَذَا مَعَ وُجُودِ الِاسْتِغْنَاءِ فَقَطْ فَيُخَالِفُ مَا سَبَقَ مِنْ كَوْنِهَا مَنْدُوبَةً عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ مَعَ أَحَدِهِمَا بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ اهـ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ وَتَكَلَّفَ بَعْضٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ فَقَالَ قَوْلُهُ: كَتَرْكِهَا مَعَ أَحَدِهِمَا هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمُتَدَاوَلَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كَلِمَةَ لَا سَاقِطَةٌ مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّ الْمَعْنَى كَتَرْكِهَا لَا مَعَ أَحَدِهِمَا بِقَرِينَةِ تَفْسِيرِهِ بِقَوْلِهِ أَيْ إنْ لَمْ تَكُنْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ مَعَ مَا يَشْهَدُ بِهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ اهـ.
وَاعْتَرَضَهُ فَاضِلٌ ثَالِثٌ فَقَالَ وَفِيهِ بَحْثٌ أَيْ فِي كَلَامِ الثَّانِي لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُؤَدَّى قَوْلِهِ لَا مَعَ أَحَدِهِمَا عَدَمُهُمَا مَعًا فَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَوْلَاهُمَا. . . إلَخْ فَيَلْزَمُ التَّكْرَارُ وَإِنْ كَانَ عَدَمُ أَحَدِهِمَا يَكُونُ ذَلِكَ صُورَةَ كَوْنِ الْوَصِيَّةِ مَنْدُوبَةً عَلَى مَا ذَكَرَهُ فَآخِرُ كَلَامِهِ يُنَاقِضُ أَوَّلَهُ فَتَدَبَّرْ اهـ.
وَنَصُّ الْمَذْهَبِ مَا قَالَ فِي الْكَافِي الْوَصِيَّةُ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ أَوْ يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَالْهِبَةِ لِلْقَرِيبِ، وَالْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّهُ يَبْتَغِي بِهَا رِضَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ يُخَيَّرُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ وَلَا يَسْتَغْنُونَ بِمَا يَرِثُونَ فَالتَّرْكُ أَوْلَى لِأَنَّ تَرْكَ الْوَصِيَّةِ صَدَقَةٌ عَلَى الْقَرِيبِ بِقَدْرِ الْوَصِيَّةِ، وَالْوَصِيَّةُ تَصَدُّقٌ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» . اهـ.

(قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَمَّا قَصَّرَ فِيهِ فِي حَيَاتِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّدَارُكُ بَعْدَ مَمَاتِهِ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ عِنْدَ مَمَاتِهِ

(قَوْلُهُ: فَإِمَّا أَنْ يُقَيِّدَ هَذَا بِمَا سِوَى الْعَيْنِ) فِيهِ تَأَمُّلٌ إذْ يَشْمَلُ الدَّرَاهِمَ الْمُرْسَلَةَ وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهَا كَالْعَيْنِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ وَبِمَا سِوَى الدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ (قَوْلُهُ: جَازَتْ الْوَصِيَّةُ فِي كُلِّهِمْ) عِبَارَةُ قَاضِي خَانْ فِي قَوْلِهِمْ

(قَوْلُهُ: وَصَحَّتْ لِلْحَمْلِ وَبِهِ إنْ وُلِدَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِهَا) كَذَا فِي الْهِدَايَةِ، وَالْكَنْزِ.
وَقَالَ قَاضِي زَادَهْ: يُشْتَرَطُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَهُ أَوْ بِهِ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَصَحَّحَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَوْ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي نُكَتِ الْوَصَايَا، وَالْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ اهـ.
وَفِي الْكَافِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَوْصَى لَهُ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْوَصِيَّةِ وَإِنْ أَوْصَى بِهِ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ كَمَا فِي التَّبْيِينِ (قَوْلُهُ: بِأَنْ يَقُولَ أَوْصَيْت لِحَمْلِ فُلَانَةَ كَذَا دِرْهَمًا) يَنْبَغِي بِكَذَا دِرْهَمًا

الصفحة 428