كتاب فتح الباري لابن حجر (اسم الجزء: 2)

(قَوْلُهُ بَابُ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ عِنْدَ الْإِقَامَةِ وَبَعْدَهَا)
لَيْسَ فِي حَدِيثَيِ الْبَابِ دَلَالَةٌ عَلَى تَقْيِيدِ التَّسْوِيَةِ بِمَا ذُكِرَ لَكِنْ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ كَعَادَتِهِ فَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ عِنْد مَا كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ

[717] قَوْلُهُ لَتُسَوُّنَّ بِضَمِّ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ وَفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَلِلْمُسْتَمْلِي لَتُسَوُّونَ بِوَاوَيْنِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هَذِهِ اللَّامُ هِيَ الَّتِي يُتَلَقَّى بِهَا الْقَسَمُ وَالْقَسَمُ هُنَا مُقَدَّرٌ وَلِهَذَا أَكَّدَهُ بِالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ انْتَهَى وَسَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَرِيبًا إِبْرَازُ الْقَسَمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ أَيْ إِنْ لَمْ تُسَوُّوا وَالْمُرَادُ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ اعْتِدَالُ الْقَائِمِينَ بِهَا عَلَى سَمْتٍ وَاحِدٍ أَوْ يُرَادُ بِهَا سَدُّ الْخَلَلِ الَّذِي فِي الصَّفِّ كَمَا سَيَأْتِي وَاخْتُلِفَ فِي الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فَقِيلَ هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَالْمُرَادُ تَسْوِيَةُ الْوَجْهِ بِتَحْوِيلِ خَلْقِهِ عَنْ وَضْعِهِ بِجَعْلِهِ مَوْضِعَ الْقَفَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَعِيدِ فِيمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ وَفِيهِ مِنَ اللَّطَائِفِ وُقُوعُ الْوَعِيدِ مِنْ جِنْسِ الْجِنَايَةِ وَهِيَ الْمُخَالَفَةُ وَعَلَى هَذَا فَهُوَ وَاجِبٌ وَالتَّفْرِيطُ فِيهِ حَرَامٌ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي بَابِ إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ قَرِيبًا وَيُؤَيِّدُ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ لَتُسَوُّنَّ الصُّفُوفَ أَوْ لَتُطْمَسَنَّ الْوُجُوهُ أَخْرَجَهُ أَحْمد وَفِي إِسْنَاده ضعف وَلِهَذَا قَالَ بن الْجَوْزِيِّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِثْلُ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فنردها على أدبارها وَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْمَجَازِ قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ يُوقِعُ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَاخْتِلَافَ الْقُلُوبِ كَمَا تَقُولُ تَغَيَّرَ وَجْهُ فُلَانٍ عَلَيَّ أَيْ ظَهَرَ لِي مِنْ وَجْهِهِ كَرَاهِيَةٌ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ فِي الصُّفُوفِ مُخَالَفَةٌ فِي ظَوَاهِرِهِمْ وَاخْتِلَافُ الظَّوَاهِرِ سَبَبٌ لِاخْتِلَافِ الْبَوَاطِنِ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ مَعْنَاهُ تَفْتَرِقُونَ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ وَجْهًا غَيْرَ الَّذِي أَخَذَ صَاحِبُهُ لِأَنَّ تَقَدُّمَ الشَّخْصِ عَلَى غَيْرِهِ مَظِنَّةُ الْكِبْرِ الْمُفْسِدِ لِلْقَلْبِ الدَّاعِي إِلَى الْقَطِيعَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَجْهِ إِنْ حُمِلَ عَلَى الْعُضْو الْخُصُوص فَالْمُخَالَفَةُ إِمَّا بِحَسَبِ الصُّورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ أَوِ الصِّفَةِ أَوْ جَعْلِ الْقُدَّامَ وَرَاءَ وَإِنْ حُمِلَ عَلَى ذَاتِ الشَّخْصِ فَالْمُخَالَفَةُ بِحَسَبِ الْمَقَاصِدِ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْكِرْمَانِيُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُخَالَفَةِ فِي الْجَزَاءِ فَيُجَازِي الْمُسَوِّيَ بِخَيْرٍ وَمَنْ لَا يُسَوِّي بِشَرٍّ

[718] قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَقِيمُوا أَيْ عَدِّلُوا يُقَالُ أَقَامَ الْعُودَ إِذَا عَدَلَهُ وَسَوَّاهُ قَوْلُهُ فَإِنِّي أَرَاكُمْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى سَبَبِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ أَيْ إِنَّمَا أُمِرْتُ بِذَلِكَ لِأَنِّي تَحَقَّقْتُ مِنْكُمْ خِلَافَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي المُرَاد بِهَذِهِ الرُّؤْيَة فِي بَاب عِظَةِ الْإِمَامِ النَّاسَ فِي إِتْمَامِ الصَّلَاةِ وَأَنَّ الْمُخْتَارَ حَمْلُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خَلْقُ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ لَهُ بِذَلِكَ وَنَحْوُ ذَلِكَ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ لَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلِهَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى تَعْطِيلِ لَفْظِ الشَّارِعِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَلْ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا أَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً فِي كَرَامَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الصفحة 207